السفير 13/08/2007
الصرير العتيق للأقلام البيضاء
نبيه بري
ثم ها نحن نقبل الى ذكراك من موسم أخضر لنصر صعب استرجعنا خلاله النهار مغسول الوجه بحجر الضوء، وكأن الشهداء إذ ذاك ما زالوا خارج جنتهم يدافعون عن أسماء عيناتا ويتوزعون على: «العقبة» و«المطيحنة» و«بير زبيب» و«السدر»، وكنت أنت تأتي من البيوت الشريفة في حارة السياد تمشي ثابت الخطوة رغم اشتعال المكان، كأنك مطمئن أنك معصوم من الانفجار والنار والنسيان وتطوي سكوتك على كلمة سر القصيدة: المقاومة.
ثم ها نحن لدينا أسباب لنعرف أن ميتنا لا يموت، أولها أننا لا نريد للبرق الذي يسكن أجسادنا أن يخبو، وثانيها أننا لا نقبل موت الايقاع، وثالثها أننا نشتاق ما نشتاق، ورابعها أيها الإمام الأستاذ الشاعر السيد محمد نجيب فضل الله أننا نعمد أزهارنا بالندم ونقرأ الاشعار ونكتبها حجابا نعلقه على زند أشجار شبابنا ليقينا الماء والاعداء وأذى الاشياء.
وايضا وايضا فإن لدينا لنعرف أن أحبابنا قضوا في الشعر، أبلغها أن الشعر مرض سري يسكن عشقنا وربيعنا ويمر على بالنا ويلذعنا بطعم القلق ولا يتركنا ننام، لكأنه أرق الياسمين ووحدة الاشواق التي انتبهت الى الهزيمة التي كانت تسكن في لغتنا التي كادت تفككها الخديعة لولا أنك قرأت قصيدتك المقيمة: «أمل موسى درويش» فانفتح باب على مواسم اللغة التي تمنح جوازا للعبور الى أسماء عيناتا الحسنى: «علي درويش»، «محمد سمحات»، «كمال ابراهيم»، «كمال عبد الله»، «أمير فضل الله»، «جميل النمر»، «مروان سمحات»، «موسى خزعل»، «علي السيد» و«ناظم نصر الله» والآخرين...
ثم ها نحن بعد التحرير وبعد الشهداء القصائد الذين زرعوا قامتهم في الأرض لحصاد النصر ـ ها نحن ـ قد بتنا نملك سببا لنجد الطريق الى حدائقك المضيئة بالشعر ونقول حسبك أن تقوم الآن لترى ما نحن فيه وقد اجتمعت علينا الدنيا ولكننا على حق لذلك لا نبالي إن وقع الموت علينا أو وقعنا عليه.
ثم ها نحن هنا وأنت والمكان والزمان حلفاء ذاكرتنا، وأشعارك ملح خبز التراب وشبهة الأقحوان والورد في صحوه وغابات من الأسرار، وأطيار على الاشجار وهمس فوق عشب الروح وحب خالد لا يستريح.
ثم ها أنت كأنك الريح تذهب وجداً الى الريح تقتفي أثرا فاتنا، تغمض عياناً ولست تراه.
لذلك لا يسعني القول سوى:
كلنا من تراب
ولكن ترابك ليس ما بيننا من رماد الكلام
ما بيننا اعتراف. أحرف تستفيق مثل جن القصيدة.
كلنا من تراب
ولكن تراب أوراقك مزروع بالصرير العتيق للاقلام المتوهجة ـ الصرير ـ الذي تهتدي به الكلمات الى مكانها في زمانها وتفتح الباب على عالم القصيدة الهندسية الأنيقة الناضحة المليئة بالمدى والصدى والردى والشموس والليالي والناس والحرب والحب.
كلنا من تراب
ولكن ترابك يكتب في دفاتر قصائده شهقة الضوء على العناب ويكتب أبجديات القلوب ويعطر شهقة أنفاسها بما تبقى في صداها من رنين.
كلنا من تراب
ولكن ترابك المضيء قمرا في ليل القطاف يترك وهجه في الروح ويأخذ بيد الأمهات الى حقول التبغ، وترابك يأخذ خطو عيونهن وهن يحملن الجرار الى كربلاء عطشنا؟
كلنا من تراب
ولكن ترابك يرسم خطو الاشجار التي تخرج الى مواسمها والتي تأخذ إليها العصافير مبلولة بالندى.
كلنا من تراب
ولكن بخلاف ترابنا الذي استحال رماد أحطاب الكلام، ما زال في ترابك نبض قلب بيت من الشعر تختبئ في خزائنه أسرار عيون عيناتا من «عين الضيعة» الى «عين فريز» والوجد الذي يسافر في المرايا الحنونة بينهما ويكتب الاشواق التي تشتعل في القلب وتوشك أن تبوح بشهوة الاسماء.
[ رئيس مجلس النواب
