العقار ذو "الأرواح التسع" ..
(الأسبرين) حبةٌ سحرية.. تختبئ خلفها القصص!
تقرير- نوف السبيعي
زمن سريع وربما يشي بالجنون.. وضغوطٌ كنا نأمل أن تتلاشى لكنها تتراكم..
وضوضاء تضيق وتتسع ثم تطوقنا كشرنقة.. وحبةٌ بيضاء صغيرة كفيلة بأن تشعرنا
بالارتياح.. نحملها معنا دائماً في جيب، حقيبة أو محفظة صغيرة!
إذا شعرت بالصداع أو الحمى أو الروماتيزم أو تحاول تجنب أزمة قلبية سيكون
(الأسبرين) هو الحل الأمثل.. لذا لا تخلو البيوت منه.. تقول (أم محمد):
"قلبي مريض.. لذلك يومياً أتناول حبة أسبرين تفادياً لأزمة مفاجئة.. لأنه
في حال تركها ربما تحدث كارثة.. وطبعاً الأعمار بيد الله!".
هذه الحبة المتناهية في الصغر لها تاريخ عميق ضاربٌ في القدم.. والرواية
تبدأ من (بردية إيبرز Ebers Papyrus) التي كانت ملكاً لرجل أمريكي يدعى
أدوين سميث - وجدت هذه البردية مدفونة بجوار مومياء فرعونية- وقد ابتاعها
منه أستاذ ألماني يدعى إيبرز فسميت البردية باسمه، تعود هذه البردية إلى
العام 1534قبل الميلاد وقد كانت تضم حوالي 160وصفة علاجية ترتكز على
الأعشاب والنباتات ومن ضمنها (الصفصاف) وهو المكون الرئيسي للعقار الأكثر
شهرة، في القرن الخامس قبل الميلاد كانت البردية ملهمة لكثير من أطباء
الإغريق وعلى رأسهم (أبوقراط) حيث نصح باستخدام لحاء الصفصاف كدواء مسكن
وخافض للحمى وعلاج لآلام الولادة، ثم غرق العالم في ظلمات الجهل والانحطاط
ولم تتم إعادة اكتشاف فائدة الصفصاف إلا في القرن الثامن عشر على يد رجل
الدين الانجليزي القس إدوارد ستون وذلك بعد أن استظل بشجرة صفصاف، في
العام 1838م نجح عالم كيمياء ايطالي يدعى رافائيل بيريا في استخراج حمض
يدعى حمض الساليسيليك من لحاء الصفصاف لكنه ذو آثار جانبية، وفي العام
1853م نشر شارل جيرهاردت محاولته للحد من التأثيرات الجانبية لهذا الحمض
عبر توليف حمض الساليسيليك الاسيتيلي اصطناعياً.
قصة شائعة ورائجة تنسب الفضل في اختراع الأسبرين إلى العالم الألماني فيليكس هوفمان
الذي كان يعمل لدى (باير) وهي شركة كانت مختصة في إنتاج الأصباغ
الكيميائية لكنها تحولت إلى مختبر للأبحاث حول الأدوية، القصة تقول بأن
هوفمان بدأ البحث عن تركيبة مناسبة لوالده المصاب بالروماتزم، وكان هدفه
إيجاد دواء أقل حموضة ولا يسبب تهيجاً للمعدة، هذه الأبحاث قادته إلى
تصنيع ماتوصل إليه جيرهاردت ولكن بمزيد من الفاعلية.. هذه الرواية لا
تتضمن كل التفاصيل الحقيقية.. فتطور الأسبرين يرتبط بثلاثة أشخاص هم
(هاينريخ دريزر) و(آرثر آيشنغرون) بالإضافة إلى هوفمان.. يقول Diarmuid
Jeffreys صاحب كتاب Aspirin: "تجلى اهتمامي الأول بهذه المادة الاستثنائية
منذ سنوات عدة عندما تعرض والدي لنوبة قلبية حادة، لكنه تعافى منها لحسن
الحظ وهاهو اليوم يتمتع بصحة وافرة، غير أنه بدأ منذ ذلك الحين يواظب على
تناول قرص صغير من الأسبرين يومياً كي يحافظ على جريان الدم في شرايينه،
ومؤخراً باشرت والدتي في تناوله لنفس السبب.. وقد أثار هذا الأمر لدي بعض
التساؤلات.. فماهو مصدر هذا الدواء؟ وكيف يمكن لقرص عادي يستعمل لمعالجة
الصداع أن يتطور ليصبح عقاراً يبعد شبح الموت عن الكثيرين؟ وبعد البحث
أدركت أنه يخفي وراءه قصة أغنى وأقدم وأكثر تعقيداً مماهو معروف.. وماهذا
الكتاب في الواقع إلا ثمرة ما أدركته!".
الصداع، الحرارة، النوبات القلبية، السكتات الدماغية، تجلط الدم، سرطان
الأمعاء، إعتام عدسة العين، الشقيقة، الزهايمر والعقم يعالجها الأسبرين،
لكن بالمقابل أثبتت بعض الدراسات الحديثة بأن الأطفال الأقل من 12سنة عرضة
للإصابة بتلف في أنسجة المخ والكبد، كما إن الإدمان عليه قد يُسبب طنيناً
في الأذن بالإضافة إلى نزيف دموي في المعدة والأمعاء!
شهرة الأسبرين حولته في غضون سنوات إلى رمز ثقافي حيث تغنى بفائدته الكاتب
(خوسيه أورتيغا واي غاست) و(كافكا) و(جورج أورويل) وظهر في أعمال (غراهام
غرين) و(إدغار والاس)، وفي عالمنا العربي أيقظت تأمل الشاعر (نزيه أبو
عفش) في قصيدة (ما قبل الأسبرين):
"أيام كان الناس يحلمون الحياة بأسنانهم
ويداوون آلام الموت بصرخات قلوب اليائسين
ما قبل الأسبرين
ما قبل اللغات والرسائل والتعاويذ
ما قبل الأسئلة الكبرى والرسالات الكبرى
ما قبل "Help me" و"أنجدني"
و"ضمد بحنانك عذاب قلبي"
ما قبل الأسبرين
فكر في كوابيس تلك الأزمنة!"
حتى الآن نُشر ما يقارب من 26ألف مقال طبي وعلمي ولازال العلماء يقفون
مذهولين أمام الاكتشافات الجديدة التي تُضاف لهذا العقار العجيب ومن غير
المستبعد أن يؤدي الأسبرين يوماً ما دوراً هاماً في اللقاحات الفاعلة ضد
مرض الايدز فقد ثبت أن الأسبرين يعيق نوعاً من البروتين الذي يعزز تكاثر
الفيروس!
(بنادول) و(أدفيل) مسكنات معالجة للألم لا تحتوي على مادة الأسبرين.. لذلك
في السعودية تستهلك كميات هائلة من المسكنات من ضمنها الأسبرين.. لكن عند
معالجة الصداع يظل (بنادول) هو المسيطر لدرجة أنه يُباع في محطات الوقود..
يقول (عبدالعزيز السليمان): "من ضمن قائمة الأشياء التي أضعها في حقيبة
السفر علبة بنادول.. وهذا مايفعله مريض القلب لكن مع الأسبرين".. وتضيف
(أم فهد): "بيوتنا لا تخلو من المسكنات وبأسماء مختلفة.. لأنها الحل
السريع لمعالجة أزمة طارئة!".
لذا عندما يبدأ عمال البناء في ضرب مطارقهم على رأسك.. ثم تعمد إلى تناول ال Aspirin.. تذكر بأنها ليست مجرد حبة بيضاء صغيرة!