]font=Arial Black][بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيّدنا محمّد وآله الطّاهرين ..السلام عليكم ...
لعلّ كلمة الإصلاح هي أكثر الكلمات سريانا على الألسن هذه الأيّام، فعلى الرغم من أنّ حركة الإصلاح متجدّرة في التّاريخ الإسلاميّ، فإن مطلب الإصلاح من الدّاخل قد أصبح قويّا بشكل غير مسبوق لم يصل أبدًا إلى هذه الدّرجة من الحدّة، لاسيما وأنّ الضّغط الخارجيّ في اتّجاه تعزيز هذا المطلب ودعم القوى التي تحرّكه معامل ينضاف ليلقى بظلال من الشّكّ على طبيعة الإصلاح ذاته، فهناك في الغرب الكثير من المفكّرين والاستراتيجيّين الذين لا يريدون أن تنفلت الأمور من أيديهم فتخرج عن سيطرتهم، فهم يدركون التّطوّر الطّبيعيّ للمجتمعات، والتّطوّر التّاريخيّ للمسار الفكريّ ويدركون أكثر من غيرهم أنّ دوام الحال من المحال، خصوصا وأنّهم متابعين للشّأنين العربيّ والإسلاميّ من خلال العديد من الدّراسات ومراكز الأبحاث، فمن هذه النّاحية يكون هدفهم هو: ((ترويض حركات الإصلاح لتفرز نموذجا للإسلام يناسبً الإطار اللّيبراليّ، تمامًا مثلما فعلوا مع المسيحيّة واليهوديّة))، ويكون هدف العلماء والمفكّرين الإسلاميّين هو استئناف مبادرات المصلحين السّابقين من أمثال ابن حزم، وداود الظّاهريّ، وابن تيميّة، وأبو حامد الغزاليّ، ومحمّد بن عبد الوهاب، وولي الله الدّهلويّ وغيرهم، ورفد هذه المحولات بعناصر من الفكر المعاصر تجعلها مقبولة مستساغة مواكبة للتّطوّرات الجارية على قدم وساق، بينما يكون هدف الحركات الإصلاحيّة الحركيّة باتّجاهاتها الإسلاميّة والرّاديكاليّة هو استثمار ((توافق المصلحة)) بينها وبين الغرب في إحداث التّغييرات الضّروريّة في العالمين العربيّ والإسلاميّ، حتى وإن رتّب ذلك التّوافق تكاليف باهظة تنجم عن الاستعانة بخصم خارجيّ لدود لإسقاط محتلّ داخليّ فاجر، وهذا التّوافق هو ما يفقد الغرب أكثر أعدائه مهابة بعد إدماجهم في آلة النّظام العالميّ الجديد الذي يراد تنصيبه، ويحتجّ أقطاب هذه الحركات بضرورة إجراء هذه العملية القيصريّة للإصلاح تقليصا لحجم التّكاليف المرعبة في حال الولادة الطّبيعيّة، خصوصا وأنّه ليس ثمة سبب مقنع للاعتراض عليها في ظل الموقف الجديد والتّحوّلات الطّارئة، ويبقى السّؤال قائما عن كيفيّة ضمان تحقّق هذه الأهداف في ظلّ حركات الإصلاح الجديدة؟..
ويواجه هؤلاء الإصلاحيّون مهمة ذات شقّين:
يتعلّق الشّقّ الأوّل: بتحديد أدقّ الأسباب التي جعلت المبادرات الإصلاحيّة للأسلاف تخفق فلم تفض إلى النّتائج المرغوبة بينما يتعلّق الثّاني: بابتكار منهج عمليّاتيّ (operational) يساعد على ابتكار الأدوات والأطر الفكريّة المناسبة لاستعادة الإسلام الأصيل والنّقيّ، بتخليصه ممّا علق به من نظرة تاريخيّة وما أحاط به من تفسيرات بشريّة
ولعلّ منهجا يتبنّى النّموذج القرآنيّ في مساءلة الواقع والأفكار والاتّجاهات كفيل باكتشاف روح الإسلام العظيمة واستعادة الأمل في إنجاز الإصلاح بشكل صحيح وعلى نحو يخلق حركة إصلاحيّة لم يسبق لها مثيل في تاريخ المسلمين، فلا تكفي الرّغبة القويّة في اكتشاف جوهر الإسلام بل لا بدّ من ((رحلة/هجرة)) جديدة في الزّمن إلى مدينة الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم للعودة بالإسلام إلى العصر النّبويّ أي إلى أصوله النّقيّة، عودة تتوسّل فقها جديدًا ومنهجًا صارما في البحث والتّحقيق، وتعتمد على الشجاعة اللاّزمة لمساءلة الاجتهادات المتراكمة، وتمحيص الصّور التّاريخية المتمثّلة في مناهج التفسير والبحث، وفي طرق الاستدلال، وطرق الاستنباط، وفي الفقه بصفة عامّة، من أجل توحيد الفهم وتشجيع البحث والاجتهاد ونزع "المناطق المحظورة" عن النّقاش العلميّ الهادف والرّصين لتشكيل هوّية إسلاميّة ووعي جديدين، هوّيّة تنظر إلى الغاية القرآنية من غير أن تأخذ عنوانا فقهيّا يتشبّث بالفروع على حساب الأصول، ويقنع بالمظهر دون الجوهر الذي يطمح إلى تكوين رؤية قرآنية عالمية وشاملة، والسّؤال الأكثر إزعاجا اليوم هو عن الأسباب الحقيقيّة التي تجعل المسلمين يعيشون خارج دائرة الفعل الحضاريّ على هامش التّاريخ بالرّغم من أنّهم أمّة قُدِّر لها أن تقود البشريّة إلى الخلاص، وأن تشهد على الأمم الأخرى يوم الحساب.. فقد أصبحت حركات الإصلاح تتمتع بفرص أفضل لعدة أمور منها:
أولا: أنّه بات من الجليّ أنّ المناهج الفقهيّة لم تعد كافية وحدها في تحصيل فهم دقيق وشامل للحقائق المتغيّرة على نحو أكثر تسارعا
ثانيا: أن الحركة النّهضويّة التي انطلقت بصخب هذه الأيّام مآلها إلى الإخفاق من جديد لكن بشكل يستدعي الرّثاء بمرارة إذا لم تتمّ الاستعانة بمنهجيّة في التّحليل والفهم تساعد على استشراف المستقبل وتناول القضايا المعقّدة بالجرأة اللاّزمة
ثالثا: لا يمكن لأيّة إستراتيجيّة أن تقوم أو تنجح أو أن يكتب لها البقاء في المستقبل بمعزل عن العالم، ولا يمكن لأيّ دين أن يعمل لخلاصه هو بمعزل عن العالم بعدما أرسى القرآن مبدأ أساسه الدّعوة العالميّة إلى "كلمة سواء"
رابعًا: لا يمكن لأيّ تخطيط يفتقر إلى التّوجيه والقيادة أن ينجح
خامسًا: لابدّ من الانفتاح على العالم لتحقيق العالميّة والنّجاح المطلوب الذي ينعكس بشكل إيجابي على قدرة الأمّة على مواكبة المستجدّات، ومن ثمّة على كفاءتها في أداء رسالة الإصلاح من حيث إنّها أمّة رسالة عالميّة هي رسالة الإصلاح التي تهمّ الإنسانية جمعاء.
لقد آن أوان الرّجوع عن ذلك ((الاجتهاد)) الذي يقسّم الأرض إلى دار للحرب وأخرى للإسلام، آن أوان الخروج من عزلة دامت لقرون طويلة في دار الإسلام المفترضة، فحرمت المسلمين من الوصول إلى النّموذج النّبويّ الذي مثّل الخيريّة في أبهى صورها وأنقى تجلّياتها، من حيث إنّه نموذج يجسّد مصدر الرحمة والخير للجميع. آن أوان التّحول عن الطّائفيّة والمذهبيّة وكلّ رؤية ضيّقة أو تنظيم اجتماعيّ مغلق لصالح النظر في الغايات التي رسمها القرآن للأمّة من جديد، ولأجل تشكيل وعي جديد برؤية إسلامية عالمية. لقد قام العلماء في الماضي بمهمتهم مشكورين وقد جاء دورنا لكي نرسم خطوط حركة تنوير بدلالتنا نحن وليس بما للمفهوم من ظلال في تاريخ الغرب الأوروبيّ، فالإسلام رسالة سماويّة وشريعة خالدة لا بدّ للعقل البشريّ من أن يفسّرها، لذلك لا بدّ من نقطة انطلاق مغايرة لنهج علماء الماضي بسبب تغيّر الإشكاليّات وتنوّع الأسئلة والحاجيّات، فنحن في واقع الأمر مع تدخل العقل البشريّ لتفسير الرّسالة الخاتمة على نحو متجدّد ومستمرّ يخلّصها على الدّوام من أيّة عناصر بشريّة تفسيريّة قد تلقي بظلالها على جوهر الإسلام فتحجبه أو تشوّهه، ينبغي أن يحدث هذا إذا أردنا النّجاح لحركة الإصلاح الجارية
ملاحظات لا بدّ من الإشارة إليها:
- 1 ستندثر من غير شكّ حركة الإصلاح في طيّ الدلالات التّاريخية والثّقافيّة التي توحي بها كثير من المفاهيم والمصطلحات التي يروّجها الإعلام، وتستثمرها الاتّجاهات المعاكسة لإرادة الشّعوب في خلق وعي مشوّش وملتبس يرفض الإصلاح كقيمة أخلاقيّة، والتّصحيح كممارسة راشدة ورشيدة، لذلك فإنّه يُنصح بأخذ موقف واضح من أيّ شعار يرفع لا يكون رفعه على دراية تامّة برسالة القرآن التي تدعو إلى الحرّيّة ولا بالتّاريخ العامّ حيث تنتهي فصول قصّة التّنوير الغربيّة إلى ما يعتقد بعض كبار المفكرين الغربيّين من أمثال جيفرسون، وكانط، ودافيد هيوم بأفضلية الجنس الأبيض المزعومة، وحيث تعني عملية الإصلاح الفكاك من هيمنة الكنيسة وتفادي الاصطدام المباشر مع الفكر العقلانيّ، فمثل هذه المواقف والشّعارات لا وجود لها في التاريخ الإسلاميّ، لذا يتعيّن توخّي أقصى درجات الحذر عند تناول مثل هذه المفاهيم والمصطلحات
2 - مما لاشكّ فيه أنّ نقل التّجربة اللّوثريّة أو الكالفينيّة أمر خاطئً تماما، لأنّ القرآن الكريم ليس مجرد كتاب مقدّس بالمعنى الكنسيّ للكلمة، ومن هنا لا يصحّ أن نتعامل معه كأي كتاب آخر
- 3 يجب أن يكون واضحا لدى الجميع، مفهوما لدى الجميع، أنّ إصلاح الإسلام من الدّاخل إنّما يعني إزالة العناصر التّفسيريّة المشوّشة وليس إصلاح الإسلام ذاته، لقد تعوّد بعض الفقهاء والمتكلّمين النّظر إلى العقل على أنه ضدّ الوحي، فاعتقدوا أن المعرفة العقلانية تقود إلى الانحراف في العقيدة والزّيغ عن جادّة الوحي، من حيث إنّ المعرفة العقليّة تعتمد الحسّ والمشاهدة بينما تعتمد المعرفة الإلهية التّسليم بخبر السّماء، فكان أن حسم هذا الاتجاه الأمر لصالحه، وكان من سوء حظّ هذه الأمّة أن خفت الاتّجاه الذي يجعل التفكير العقلانيّ أساس المعرفة الإلهيّة، من حيث إنّ القرآن نفسه بوصفه المنبع الأساس لتلك المعرفة، يحضّ النّاس كلّ النّاس على التّفكّر والتّدبّر وعلى التّأمّل، بل يستنكر التّقليد في أمور العقيدة، ومع ذلك فقد بذل الجميع مشكورين وسعهم في الحفاظ بطريق التّواتر على القرآن من أن يطاله التّحريف وحفظوا له بتوفيق الله تلك الطّريقة التي نزل بها على سيّدنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلّم، لقد كان كبار علمائنا وفقهائنا السابقين بشرًا، فلا غرو إذًن أن يكونوا قد ارتكبوا أخطاءً، ولا يفترض بنا أن نتحمل وزر أخطاء الآخرين، لأنّ لدينا ما يكفي من الأخطاء - 4 لا يمكن لحركة الإصلاح والتّصحيح أن تسير جنبًا إلى جنب مع التّقليد والإتّباع الأعمى وبالطبع، ليس هناك أي ضرر محتمل إذا تعلمنا من رواد الماضي، لكننا في نفس الوقت يجب ألا نتمسك بالحصول على نفس النتائج حتى لا يكون الجهد المبذول هدرًا للوقت واستنفاذًا للطاقات - 5 لابدّ من الجرأة على بعض القضايا الحسّاسة التي لم يعرض لها مصلحو الماضي بالبحث بعد أن اعتبرها "مناطق محظورة" عن البحث
فعن سبيل المثال:
أ) تعدّد المدارس الفقهيّة واختلافها داخل المذهب الواحد سواء كان سنّيّا أو شيعيّا، ومع ذلك لم يتجرأ أحد على أن يتحدى النّسبة الكبيرة من الاجتهادات الفقهيّة لتلك المدارس المتنوعة فيردّها إلى الأصل مرجّحا بعضها على البعض ومحقّقا بذلك وحدة الإطار الفكري بوحدة المرجعيّة: ((الكتاب والسّنّة وسيرة السّلف من الآل الأطهار والصّحب الأخيار))، ومتحدّيا بذلك ما اعتقد البعض وجوبه ظنّا أن تقليد مدرسة ما من المدارس الفقهيّة أمر من ضروريّات الدّين ولوازم الإيمان، فأمام المصلحين مهامّ شاقّة، تقتضي وضع التّراث الإسلاميّ كاملاً تحت البحث والتّمحيص لاستبعاد كلّ قاعدة أو رأي أو تفسير أو تأويل يبعد عن حقيقة الوحي الخاتم وعن فهمه يشكل دائم ومتجدّد، وبدون ذلك تظلّ العودة إلى جوهر الإسلام أمرًا بعيد المنال !.
ب) ضرورة أن يُتجاهل الإجماع الفقهيّ فيلغى تماما إذا لم يتطابق مع النظرة القرآنية الشّاملة للعالم، لأنّه قد يكون مجازًا مخطئًا، كما قد يكون الأساس الذي استند إليه عبارة عن اجتهاد فرديّ لم يعتمد في المقام الأول على القرآن والسّنة النّبويّة وإنّما على الرّأي أو القياس، ذلك لأنّ أي إجماع لابدّ من أن يستند إلى المصدرين الأساس وأن يخاطب العقل في ذات الوقت لكي يكتسب الشّرعيّة
ج) التّوقّف عن الاعتقاد بسريان إجماع السّابقين في بعض القضايا على كل العصور، ورفض القبول بغلق باب النّقاش بهذه الطّريقة وعلى هذا النّحو البائس الذي يعيد في واقع الأمر إنتاج العقلية العبوديّة التي أدانها القرآن الكريم بقوله تعالى في سورة البقرة: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ))
من الصعب خلق بداية جديدة في مجتمع أغلق الباب فيه أمام المناقشة المفتوحة لمجمل القضايا الحيويّة والهامة لقرون عديدة، فهذا تغيير للأمة من الداخل، وتحوّل من مجتمع منغلق إلى مجتمع منفتح، وهو في الحقيقة مهمة شاقّة لا مندوحة عنها تقتضي مشاركة الجميع بإخلاص لتفضي إلى الأهداف المرغوبة منها، والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السّبيل.. والحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وصحبه في البدء وفي المنتهى والسلام عليكم ورحمة الله
((منقول بتصرّف شديد))[/font]