استشار عمر بن الخطّاب رضي الله عنه النّاس فسألهم عن يوم يؤرّخون به الأحداث والمغازي فاقترح الإمام يوم هاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وترك أرض الشّرك فكان ذلك الاختيار إلهامًا من الله، لأنّ الهجرة من أعظم المناسبات الإسلاميّة، من حيث إنّها تمثّل الحدّ الفاصل بين العهد المكّيّ بكل ما حوى من تعذيب وإيذاء واستضعاف، والعهد المدنيّ الذي يجسّد عهدا جديدا عاش في ظلّه المسلمون آمنين جوّ الحرّيّة والتّمكين، فهو تاريخ يستحق أن يسجل كبداية للعهد الجديد، لقد كان الإمام عليّ عليه السّلام حكيمًا موجزًا، يهتدي إلى الصواب إن تشعبت الطرق بغيره من النّاس، ويفهم الأمور على وجهها، ويضعها في نصابها، ومن حكمه عليه السّلام قوله: ((ارتحلت الدنيا مدبرة والآخرة مقبلة، ولكل واحدةٍ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل))، ومن كلامه في الزهد والرّقائق ممّا يستحسن الوقوف عنده لأخذ العبرة واستلهام العظة، ما رواه مهاجر العامريّ أن عليًا عليه السّلام قال: ((إنّما أخشى عليكم اثنتين: طول الأمل، وإتباع الهوى، فإنّ طول الأمل ينسي الآخرة، وإنّ إتباع الهوى يصدّ عن الحقّ))، ويروي ربيعة بن ناجذ أنّه سمع عليًا عليه السّلام يقول: ((كونوا في النّاس كالنّحلة ليس من الطّير شيء إلاّ وهو يستضعفها، ولو يعلم الطّير ما في أجوافها من البركة لم يفعلوا ذلك، خالطوا النّاس بألسنتكم وأجسادكم وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم، فإن للمرء ما كسب، وهو يوم القيامة مع من أحب))، ويقول عليه السّلام: ((أحفظوا عني خمسًا لو ركبتم الإبل في طلبهنّ لأضنيتموهنّ قبل أن تدركوا مثلهنّ، لا يرجو عبد إلاّ ربّه، ولا يخاف إلاّ ذنبه، ولا يستحي جاهل أن يتعلّم، ولا يستحي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: اللهم لا أعلم، واعلموا أنّ منزلة الصّبر من الإيمان كمنزلة الرّأس من الجسد، فإن ذهب الرّأس ذهب الجسد، وإذا ذهب الصّبر ذهب الإيمان))، ((ألا وإنّ الفقيه من لا يقنّط النّاس من رحمة الله، ولا يؤمّنهم من عذاب الله، ولا يرخّص لهم في المعاصي، ولا يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره، ولا خير في عبادة لا علم فيها، ولا خير في علم لا فهم فيه، ولا خير في قراءة لا تدبّر فيها))، ((واعلموا أنّ القرآن ناصح لا يغشّ، وهاد لا يُضِلّ، ومحدث لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه إمّا بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى، ونقصان من عمى، واعلموا أنه ليس قبل القرآن من فاقة على أحد، ولا بعده لأحد من غنى، فاستشفوا به من أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم، فإنّ فيه شفاء أكبر الدّاء: الكفر والنّفاق، والغيّ والضّلال، واسألوا الله به وتوجهوا إليه بحبه، ولا تسألوا به خلقه، إنّه ما توجّه العباد إلى الله تعالى بمثله إلاّ استجاب، فهو شافع ومشفّع، ومن شفع له القرآن يوم القيامة فاز برضوان من الله كبير))، ومن أقواله في الصّالحين: (( أنّ من علامة أحدهم أنّك ترى له قوّة في دين، وحزمًا في لين، وإيمانًا في يقين، وحرصًا في علم، وعلمًا في حلم، وقصدًا في غني، وخشوعًا في عبادة، وتحملا في فاقة، وصبرًا في شدة، وطلبًا في حلال، ونشاطًا في هدى، وتحرّجًا عن طمع، يعمل الأعمال الصّالحة وهو على وجل، يمسي وهمّه الشّكر، ويصبح وهمّه الذّكر، يبيت حذرًا من الغفلة، ويصبح فرحًا بما أصاب من الفضل والرّحمة، إن استصعبت عليه نفسه ما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحبّ، قرة عينه فيما لا يزول، وزهده فيما لا يبقي، يمزج الحلم بالعلم والقول بالعمل، تراه قريبًا الأمل قليل الزّلل، خاشع القلب قانع النّفس، نزر الأكل، سهل الأمر، حرز الدّين، كظوم الغيظ، مأمولا خيره، بعيدًا فحشه، لينًا قوله، غائبًا منكره، حاضرًا معروفه، مقبلا خيره، مدبرًا شره، إن كان في الغافلين كتب في الذّاكرين، وإن كان في الذّاكرين لم يكتب من الغافلين، يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، وقور في الزّلازل شكور في الرخاء وفي المكاره صبور، لا يحيف على من بغضه، ولا يأثم بغلوّ من أحبّه فيعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه، لا يضيّع ما استحفظ، ولا ينسى ما ذكّر، ولا ينابز بالألقاب، ولا يضرّ الجار، ولا يشمت بالمصائب، ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحقّ، إن صمت لم يغمّه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته، وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له، نفسه منه في عناء، والنّاس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه، يزهد ببعده عمّن تباعد عن الله نزاهة، ويدنو ممّن دنا من قلوب النّاس باللّين والرّحمة، ليس تباعده بكبر وعظمة، ولا دنوه بمكر وخديعة))، ومن صور بلاغته عليه السّلام وصيّته لابنه بالقول: ((يا بنيّ اجعل نفسك ميزانًا بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحبّ أن تظلم، وأحسن كما تحبّ أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من النّاس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم، ولا تقل ما لا تحبّ أن يقال لك، واعلم أن الإعجاب ضدّ الصّواب وآفة الألباب، فاسع في كدحك، ولا تكن خازنًا لغيرك، وإذ أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربك)) ((منقول))