طلع علينا بيان بعض العلماء المنتسبين للسّلفيّة يتضمّن فتوى تحرّم الخروج للاحتجاج على الحكّام، وهي عبارة عن رأي اجتهاديّ توسّل أصحابه في سوغه عرض بعض النّصوص الشّرعيّة المجملة ورتّبوها على نحو داعم متجاهلين التّفصيل الذي لا يخدم ما ذهبوا إليه من موقف سياسيّ، ومنه مثلا ما رواه ابن ماجه وابن حبان وما روى نحوه التّرمذي والبيهقيّ في الصّحيح عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (ثلاث لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً، رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان)، فالشّاهد هنا قوله: (رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون)، ومنه أيضا ما كان يقوله كلّ خليفة راشد في الخطبة التي يتقدّم بها للبيعة العامّة: (لقد ولّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني)، فالشّاهد هنا قوله: (وإن أسأت فقوّموني)، ومنه أيضا ما ذكره إمام العلماء معاذ بن جبل رضي الله عنه في حجاجه للرّوم ومفاوضتهم وبيان ما يتميّز به مجتمع المسلمين النّاشئ من عدل ومساواة وإنصاف: ((إن يكن ملككم هرقل فإنّ ملكنا الله، وأميرنا رجل منّا نعرفه ويعرفنا، إن عمل فينا بكتاب ربّنا وسنّة نبيّنا أقررناه علينا، وإن عمل بغير ذلك عزلناه، وإن هو سرق قطعنا يده، وإن هو شتم رجلا منّا شتمه كما شتمه، وإن جرحه أقاده من نفسه، لا يحتجب منّا ولا يتكبر علينا ولا يستأثر علينا في الفيء، وهو كرجل منّا))، والشّاهد هنا أيضا تأكيده بصراحة وهو أحرص النّاس على الكتاب والسنة ولزوم الجماعة على شرط الطّاعة وحقّ الرّعيّة الذي لا يقبل المصادرة ولا الحجر ولا التّفويت: (إن أحسن أعنّاه، وإن أخطأ قوّمناه، وإن أساء عزلناه) حيث لا طاعة في معصيّة، فهؤلاء الأئمةُ الأربعة رموز أهل السّنّة والجماعة على مستوى الأمّة الإسلاميّة بمختلف أطيافها قد اتّفقت كلمتهم على أنّ الحجّة في نصوص الشّرع وليست في أقوال أحدهم إذا ما خالفتها لعدم العلم بها أو الخطأ في فهمها، يقول الدّكتور سعد العتيبيّ في مقال له بعنوان: (بين منهج السّلف وبعض المنتسبين)، أليس السّكوت عن الظّلم والقبول بالنّهب والرّضا بالتّعاون مع المحتلّ مشاركة للظّالمين؟، ألا يستوي الإفتاء بتحريم الاحتجاج مع الإفتاء بتحريم مقاومة الاحتلال؟، وبعد أليست محاسبة الحاكم حقّا للمحكوم من حيث إنّ الحكم خدمة عامّة من شروطها الورع والمروءة والأفضليّة في الدّين والعلم، وكذا الأمانة والشّجاعة والاتّزان والمرونة، مع الالتزام بأحكام الشّرع والوفاء بشروط البيعة، واجتناب الظّلم والكبر والتّجبّر والتّبذير وإضاعة الحقوق؟، كيف يستقيم حكم عشائريّ طائفيّ مع المعلوم من الدّين وأصحابه يملكون الأرصدة الفلكيّة في البنوك الدّوليّة ويديرون الاستثمارات الخياليّة في الدّول الأجنبيّة الصّديقة منها والمعادية، وبلاد المسلمين في حال من الفقر وسوء التّنميّة؟ كيف لا يجوز الاحتجاج على حكّام يعيشون هم وحاشيتهم وزبانيتهم في حال فظيع من البذخ والتّبذير وفئات عظيمة من أبناء الشّعب تعيش مجرّدة من الكرامة في أكوام من القشّ كالجرذان؟ كيف لا يجوز الاعتراض على ظلمهم وصغارهم بالتّبعيّة للمحتلّ والتّمسّك بالقطريّة؟ كيف لا يجوز الاعتراض على مصادرتهم لحلم الأمّة في الوحدة والتّنميّة والتّقدّم؟، أم كيف لا يجوز الاعتراض على تآمرهم ضدّ بعضهم وحيلولتهم دون استمتاع الأمّة بخيراتها والتّعاون والتّفاهم بين جميع مكوّناتها دون اعتبار للقبيلة ولا للعشيرة ولا للأسرة أو الطّائفة والمذهب الفقهيّ؟ كيف لا تسقط صفة العدالة والفضل عن نظام عطلّ أحكام الدّين وأمر بالإعدام المعارضين؟ كيف لا يجب إسقاط نظام يمنع حرّية التّعبير والتّعدّديّة الحزبيّة والمشاركة الشّعبيّة ليقوم على تفرّد الحزب والأسرة والطّائفة وعلى اغتصاب السّلطة وقهر الشّعب؟ أيّ فقه هذا يحضر على النّاس ممارسة حقّ سمح به الوحيّ الإلهيّ في الآية 148 من سورة النّساء: (لا يحبّ الله الجهر بالسّوء من القول إلاّ من ظلم)، وقوله في الآية 41 من سورة الشّورى: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل)، لله ذر القائل:
يا علماء السّلطان يا خسر البلد *** أوثقتم العقل بحبل من مسد تاجرتم بالدّين دهرا حتى *** غدا من يظلم خلاّ للصّمد فلله الأمر من قبل ومن بعد، إليه المشتكى وإليه يرجعون، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم