تشكّل الأنماط السّلوكيّة التي يقترحها الهدي النّبويّ والسّير الملهمة للصّحب الكرام والآل الأطهار حالة ثقافيّة تسند تماسك المسلمين فتعضّد وحدتهم، وتصوغ رؤيتهم لمفاهيم وقيم النّهوض الحضاريّ لتؤسّس استيعابا شاملا للحالة الإسلامية في الحاضر والمستقبل من خلال نظام معياريّ وواقعيّ يكوّن الإطار العامّ للأمن المجتمعي، ويؤلّف وحدة الموقف والهدف لفعّاليّات الأمّة السّياسيّة ومكوّناتها الاجتماعيّة، ويضع مبدأ الإصلاح الشّامل والمستمرّ قيد الفعل على المستويات الأربعة التّالية: 1) على المستوى الفكريّ: بمواجهة حالات الغلوّ والجهل، والخرافة والانحراف، والسّطحيّة الفكريّة الّتي تأخذ إمّا شكلا تكفيريّا يعادي المجتمع، أو شكلا فولكلوريّا يساهم في تيئيس النّاس وتضليلهم، فيدفعهم بذلك إلى الانسحاب الطّوعيّ من ساحة الفعل الحضاريّ، أخرج الإمام أحمد وأبو يعلى والبزّار في المساند، وأبو نعيم في تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة، ومسلم وابن خزيمة وابن حبّان في الصّحيح، والبغويّ في معالم التّنزيل، والذّهبيّ في تاريخ الإسلام، وابن أبي شيبة في المصنّف، والبيهقيّ في دلائل النّبوّة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثَلاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَلا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ، وَلا يُهْلِكَهُمْ بِالسَّنَةِ فَفَعَلَ، وَسَأَلْتُهُ أَلا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا) 2) على المستوى الاقتصاديّ: بالحفاظ على الوجود في ظل اقتصاد معولم تسيطر عليه الكتل والقوى الاقتصاديّة الكبرى وعلى ثروات الأمَّة من النَّهب والاستنزاف، ثمّ ببناء القوّة الذاتيَّة والعمل على تحقيق التقدّم العلميّ في مختلف المجالات، وبتحقيق التّنميّة المستدامة على أساس متين من العدالة في التّوزيع من غير تعطيل للمكاسب والأعمال التي لا تستقيم حياة النّاس إلاّ بها ودون السّماح بالتّعاملات المحرّمة، قال تعالى: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات)، و قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه) 3) على المستوى الاجتماعيّ: عبر الاحتفاء بموجّهات الفاعليَّة الحضاريَّة والعناية بالثّوابت التّأسيسيّة الدّاعمة لتماسك المجتمع عناية تأصيليَّة واجتهاديّة تلغي الطّائفيّة العشائريّة منها والمذهبيّة، وتحمي المقاومة بوصفها خيارا شعبيّا يبرز المنطلقات الفكريّة لكلّ نقد حركيّ يثري التّجربة الإسلاميّة ويحافظ على وجهها الجهاديّ الذي يحضّ كلّ مسلم على مصارعة الهوى والشيطان، وعلى صدّ أعداء الأوطان وحماية كرامة الأمّة من الامتهان، أخرج أبو داوود والبيهقيّ في السّنن، والطّبرانيّ في المعجم الكبير، وابن القطان في نظم الجمان، والإمام أحمد في مسند الشّاميّين، والطّبريّ في تهذيب الآثار، والألباني في السّلسلة الصحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّه قال: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، و رضيتم بالزّرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) 4) على المستوى السّياسيّ: مواجهة التجزئة والاستبداد والتّصدّي للاحتلال ولأطماع الدّول ((العظمى))، ومأسسة التّعدّديّة والشّورى وإنهاء ما يفرضه غيابهما من أشكال طائفية وعشائريّة وتفرّد سياسيّ لا يقلّ خطرا عن التّحدّي الصّهيونيّ، وذلك بتكريس الحرّيّة والمشاركة الشّعبيّة في تحديد الأولويَّات وبناء الخيارات الإستراتيجيّة، وفي عقد التّفاهمات السّياسيّة والتّحالفات الإقليميّة من أجل المحافظة بشكل أفضل على المبادئ الإسلاميَّة وثوابتها التي تنبع من الكتاب والسّنّة، وتنهل من السّيرة النّبويّة العطرة وقيمها الإنسانيّةٍ التي تواجه ما تفرضه السّلبيّة المطلقة من أشكال فئويّة: إمّا نخبويّة أو شعبويّة، روى الإمام البخاريّ في الصّحيح عن أبي إدريس الخولانيّ أنّه سمع حذيفة بن اليمان يقول: (كان النّاس يسالون الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الخير وكنت أسأله عن الشّرّ مخافة أن يد ركني، فقلت يا رسول الله، إنّا كنّا في جاهليّة وشرّ فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شرّ؟ فقال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشّرّ من خير؟؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنّم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال هم من جلدتنا، ويتكلّمون بألسنتنا) ولعلّ التّعاطي مع موضوعة الأمن المجتمعي على نحو ينبثق من فهم سليم لنصوص القرآن الكريم والسّنّة النّبويّة المطهّرة بوصفهما مصدر العلم الشّرعيّ، ومرجع المعرفة اليقينيّة في تمييز الحق والباطل والخطأ من الصواب، سيمكّن الأمّة من أن تخطو بخطى حثيثة نحو انطلاقة جرّيئة تردم الفجوات وتصل النّفوس والعقول والقلوب بمناخ الرّسالة العامّ الذي جعل المسلمين على اختلاف ألوانهم ولغاتهم أمّة واحدة، والذي جمع عموم السّلف من الصّحب الكرام والآل الأطهار تحت سقف الإسلام نداء الحياة ودعوة النّبيّ الخاتم بدون أي قيد آخر إلاّ النّصيحة لله وللرّسول ولعامّة المسلمين وخاصّتهم والرجوع إلى القرآن والسّنّة اللّذين لم ولن ينته دورهما بموت النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، واللّذين ما يزال الرجوع إليهما حلاّ لعقد الاختلاف وترسيخا لروابط المحبّة والائتلاف
المراجع المعتمدة: 1 ـ بحث قدّمه العلاّمة المجتهد السّيّد عليّ الأمين في مؤتمر التّقريب بين المذاهب الإسلاميّة المنعقد في سوريا بتاريخ 10/نيسان/1999 2 ـ بحث قدّمه المرجع الدّينيّ ورئيس التّيّار الوطنيّ العراقي العلاّمة المجتهد الإمام الشّيخ حسين المؤيّد أمام المؤتمر العشرين للمجلس الأعلى للشئون الإسلاميّة حول موضوع "مقوّمات الأمن المجتمعيّ في الإسلام " بعنوان: (المنظومة الفكريّة والمعياريّة للأمن المجتمعيّ) 3 ـ مقال نشره سماحة السيّد جعفر فضل الله في جريدة السّفير اللّبنانيّة بتاريخ: 16 ربيع الثّاني 1432هـ، الموافق: 21/03/2011م تحت عنوان: (مرتكزات في الخطاب الإصلاحيّ والحركيّ للمرجع السيّد محمّد حسين فضل الله) رحمة الله على روحه الطّاهرة 4 ـ مقال للدّكتور كمال علاونة أستاذ العلوم السّياسيّة بفلسطين بتاريخ 27 آذار 2008 على مدوّنته السّياسيّة: تعليقات يومية ناقدة