شهداء مار مخايل
أحمد أحمد حمزي العجوز، يوسف شقير، محمود منصور،
محمود حايك، والمسعفان أمهز وجهاد منذر مصطفى. شهداء سقطوا قبل عام في منطقة مار
مخايل. عائلاتهم ترفض الصمت، «فالسكوت يعني أن ما
جرى سيتكرر في مكان آخر»
روضة الشهيدين. هي المقبرة التي تحضن معظم قتلى الضاحية
وأحزانها. مكان يكاد يضيق
بالموتى وبالشهداء وبالمقتولين ظلماً. باب المقبرة هو المكان الذي
يختاره والد الشهيد يوسف مصطفى شقير للتحدّث عن ابنه (18 عاماً) الذي قُتِل مع 6 شبان آخرين يوم 27/1/2008 قرب كنيسة مار مخايل، برصاص اتهم القضاء ضباطاً وأفراداً من الجيش بإطلاق معظمه. يومها، خرج بعض السياسيين والإعلاميين ليقولوا إن «ميليشيا الضاحية تعتدي على الجيش». لكن تبدّد دخان الإطارات المشتعلة يومئذ احتجاجاً على انقطاع الكهرباء، أظهر أن القتلى والجرحى مدنيون ومسعفون، وأن بعض رجال الجيش أصيبوا بخدوش الحجارة لا أكثر، باستثناء طلق ناري أصاب خوذة ضابط وآخر استهدف آلية عسكرية، لكن بعد سقوط معظم الشهداء والجرحى.
انقشع الدخان من فوق مار مخايل، لكن ذلك لم يسمح لأهل
المدفونين في «الروضة» أو في قراهم بأن يرووا ظمأهم
من أجوبة يبحثون عنها: لماذا قتل أبناؤنا؟
ومن أعطى الأمر؟ وأين أصبح التحقيق؟ لماذا أخلي سبيل العسكريين المتهمين؟...
أسئلة مصطفى شقير تكاد لا تُحصى. هو رجل كثير السفر، لكن
مرساه الدائم عند قبر ابنه في
روضة الشهيدين. يفخر بأنه رفض أن يقبض «التعويض» الذي خصصته الهيئة
العليا للإغاثة لأهالي الشهداء والجرحى، ولم يستقبل وفداً من الجيش أتى لتعزيته بعد الحادثة. «فماذا لو كان بين الوفد من أعطى أمراً بإطلاق النار على ابني؟». يحتفظ شقير بتسجيلات لما بثته شاشات التلفزة عن الحادثة، ولتصريحات السياسيين التي أعقبت الجريمة، وبينها تلك التي يجدها
«مقزّزة، إذ اتهمت القتيل ومجّدت القاتل. قالوا عن
أبنائنا إنهم هاجموا الجيش. فهل
وجدوا في جيب أحدهم ولو شفرة صغيرة؟». لا يثق شقير بأن القضاء سيعيد إليه حقه. «ففي لبنان لا يُكشَف عن المجرمين، وفي قضيتنا، أخلي سبيل كل من أطلق النار على أبنائنا». يسجّل عتبه على العماد ميشال عون «الذي قيل إنه ضغط من أجل إطلاق سراح الضباط والجنود الموقوفين». الوالد الصلب يرى أن من يتحمّل مسؤولية دم ابنه هما «قائد الجيش (العماد ميشال سليمان)
ورئيس الأركان (اللواء الركن شوقي المصري). هما متهمان
حتى يكشف التحقيق من أعطى
الأوامر. فهل من المنطقي أن يستمر إطلاق النار لساعات من دون أن يتدخّل أحدهما لإعطاء الأوامر بوقف إطلاق النار؟».
ما العمل الآن؟. يجيب: «مطلبنا الوحيد هو معرفة سبب مقتل
أبنائنا. ولا نريد أن نتحوّل من مظلومين
إلى ظالمين، لكنني أحياناً أشعر بالندم لأنني لم
أتحرّك مباشرة لأخذ حقي بيدي. أنا أثق بالسيد حسن نصر الله الذي وعدنا بأن هذه القضية لن تكون كغيرها. كلمته لا تراجع عنها، وهو بالتأكيد لا يريد منّا أن ننسى دم أبنائنا الذي لم يجفّ بعد».
روضة الشهيدين مجدداً. والد الشهيد أحمد علي العجوز
يختار المكان ذاته للتحدّث عن
ابنه الذي كان يساعده في العمل. وشاءت الصدفة أن يكون الموعد يوم عيد
ميلاد ولده الشهيد. لم يتمكّن الرجل من حبس دموعه وهو يقول: «إبني بيسوى الدنيا وموجود تحت التراب، ومن أطلقوا النار عليه يمارسون مهمّاتهم كما كانوا يفعلون في السابق». كان أحمد (20 عاماً) يعمل في مطعم يقع وسط الطريق بين كنيسة مار مخايل وغاليري سمعان. يتوجه الوالد إلى مكان الجريمة ليشرح ما جرى: «كان أحمد عائداً من عمله، وقتل قبل الوصول إلى كنيسة مار مخايل». ينتقل لطرح الأسئلة: «أبناؤنا شبان، ولنفترض أنهم مشاغبون. لكن لماذا أطلقت النيران على المسعفين الذين استشهد اثنان منهم؟». علي العجوز اكتشف أنه مصاب بمرض السرطان بعد استشهاد ابنه. ينفث دخان سيجارته قبل أن يقول: «عندما زارنا وفد من الجيش اعترف أمامنا بالمسؤولية. يومها، فوجئنا بالصراحة وتأملنا خيراً. لكنهم اليوم باعوا القضية ويريدون لها أن تموت».
يضيف بأسى: «من فارقوا الحياة كانوا 7، لكن عدد القتلى
كاد يصل إلى 50، لأن جميع
الجرحى أصيبوا في الأجزاء العلوية من أجسادهم. من أطلق النار من مسافة قريبة كان يريد القتل. حتى إسرائيل تستخدم قنابل الغاز لتفريق المتظاهرين، ثم يأتي من يقول إننا يجب أن نحافظ على هيبة الجيش. وهل هيبة الجيش في قتل الأبرياء؟». ينهي الرجل كلامه بالجزم أنه لم يعد يريد مقابلة
«إلا من يقول لي إن من قتل ابني هو إما مسجون أو مقتول. أنا
مظلوم، وإذا تناساني الجميع فقد أخطئ».
الوصول إلى منزل عائلة الشهيد المسعف جهاد منذر في
الشياح ليس صعباً. «اسأل قرب الصورة الكبيرة». بعد
استشهاد جهاد، صدمت سيارة والدتَه. لا تتوقف
السيدة عن ذكر اسم ابنها: «ليتني متّ بعد جهاد. جهاد كان عمود البيت. ربيت جهاد على بغض أمر واحد هو الطائفية. جهاد كان يعمل في عين الرمانة. جهاد كان مسعفاً يحاول إنقاذ الجرحى عندما قتلوه».
والد الشهيد محمود منصور مطمئن إلى أن حق ابنه لن يذهب
هدراً، مختصراً وجهة نظره
بجملة واحدة: «محكوم علينا أن ندفع الدم كي لا تكون فتنة في البلاد».
أما والدة الشهيد أحمد حمزي، فتوجّه سؤالاً واحداً إلى
وزير الدفاع الياس المر: «ماذا
لو كان ابنك بين الشهداء؟ هل كنت حينها ستسمح بإطلاق سراح مطلقي
النار؟»
■ أين الملف في القضاء؟
المحكمة العسكرية باشرت محاكمة 68 شخصاً بجرائم تتعلّق
بما جرى في ذلك اليوم
الأسود، بينهم 3 ضباط من الجيش و16 رتيباً ومجنّداً، بعضهم متهم بجنايات تصل عقوبتها إلى أكثر من 5 سنوات سجناًَ. وفي جلسة المحاكمة الأولى التي عقدت في تشرين الثاني الماضي، تليت أوراق الدعوى، وأرجئت المحاكمة إلى السادس من الشهر الجاري. اليوم المذكور كان يوم عطلة رسمية، فأرجِئت المحاكمة مجدداً إلى حزيران المقبل، «لإتمام إبلاغ عدد من المتهمين غير المبلغين سابقاً» بحسب مصدر رسمي. وأشار مسؤولون قضائيون إلى أن جميع الموقوفين أخلي سبيلهم، و«أن مدة التوقيف كانت غير مسبوقة، من ناحية طول أمدها». ولفت المسؤولون ذاتهم إلى أن «الاتهام غير مسبوق أيضاً لناحية تشدده بحق العسكريين، الذين عادة ما يحاكمون في حالات مماثلة بتهم تصل عقوبتها القصوى إلى 4 أسابيع حبساً».
لكن ذلك لا يطمئن عائلات عدد من الشهداء. يقول والد
أحدهم: «لا نعرف شيئاً عمّا يجري
في المحكمة، وإخلاء سبيل الموقوفين يعني أن لا شيء سينفع».