«كنت أنظر ولا أصدق أني وطأت أرض فلسطين. هل هذه هي فعلاً أرض فلسطين؟ إنها فعلاً فلسطين!»، تقول الزميلة أوغاريت دندش من تلفزيون «الجديد»، التي كانت على متن «سفينة الأخوة» اللبنانية المحملة بالمساعدات الغذائية والطبية لأهالي قطاع غزة المحاصر، والتي أجبرتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على الرسو في ميناء أسدود، واحتجزت ركابها وحققت معهم واعتدت عليهم بالضرب، قبل أن تطلق سراحهم.
تلتقط أوغاريت أنفاسها بعد نوبة من السعال المفاجئ الذي أصابها بسبب هواء البحر، وبعد أن تسلم على مهنئين توافدوا الى منزل أهلها، تعود لتروي بعض ما حدث معها على السفينة من لحظة القاء القبض عليها وزملائها المتضامنين مع غزة، الى حين عودتهم الى الوطن.
تقول: «كانت الساعة الحادية عشرة إلا ثلثاً عندما وصلت الزوارق الاسرائيلية الينا. كانت أكثر من خمسة. عندما وطأ الإسرائيليون أرض السفينة، صارت صورهم تتداخل في رأسي. هو مزيج من الصور التلفزيونية والحقيقية. جاء الضابط المسؤول عنهم وصرخ فينا: «اركعوا على الأرض». قالها بالانكليزية». والضابط سيتابع أسئلته طوال الوقت باللغة نفسها.
لم يضع الضباط رتباً عسكرية على أكتافهم، لكن كان من السهل تبيانهم من خلال حضورهم وسطوتهم على زملائهم العسكريين. ولم يضع أي من الإسرائيليين العسكريين رتباً عسكرية على بزاتهم. حتى أن بعضهم كان ملثم الوجه.
وصل الإسرائيليون أولاً إلى د. هاني سليمان، وتعرضوا له بالضرب. حينها، كانت الزميلة في قناة «الجزيرة» سلام خضر في رسالة مباشرة على الهواء، من قرب غرفة القبطان، التي تقع على مسافة أعلى من سطح السفينة.
تروي سلام: «كنت قرب غرفة القبطان حيث يمكن التقاط الإرسال بشكل أفضل من فوق، وحيث نتمكن من رؤيتهم إن صعدوا إلينا. نبهني زميلي المصور محمد عليّق أنهم بدأوا بالصعود الى سطح السفينة. عندما التفت إلى الناحية التي كانوا يأتون منها، كانوا قد تنبهوا إلى أنني ما زلت على الهاتف أنقل ما يحدث مع الدكتور سليمان، والخط لا يزال مفتوحاً مع الدوحة. وصل الجندي الإسرائيلي إلي وحاول أن يسحب الهاتف من يدي، فتراجعت إلى الوراء واستمررت بالكلام. وبعد عدة محاولات منه، ضربني بقبضته على رأسي ونجح بنزع الهاتف ثم دفعني».
في هذا الوقت، تحضّر أوغاريت نفسها للخطوة التالية، وهي: تثبيت القدمين في الأرض. لقد توقعت المشهد التالي الذي سيطالها. رغم «استعدادها» هذا، تنال نصيبها من الدفع، وتتعرض للضرب مرتين. وبعض هذه الكدمات ترك أثره على جسدها.
كانت أوغاريت واقفة قرب غرفة القبطان أيضاً عندما وصل الضابط إليها. شاب أشقر ببشرة بيضاء وعينين عسليتين. سيتبين لاحقاً أنه من جنوب أفريقيا، وهو الأمر الذي أكده شخصياً للناشطة في حملة «غزة الحرة» البريطانية تيريزا.
دفعها إلى الأرض ثم أُخرجت إلى شرفة السفينة. رمت السيجارة التي كانت بيدها بحركة من أصبعها على أحد الجنود. وقد قصدت بفعلها هذا أن توجه إهانة إليه. في اللحظة نفسها، يلتقطها الضابط الإسرائيلي من عنقها ويسحبها الى الوراء ثم يقول لها: «عليك ان تفهمي أنه يجب أن تنفذي الأوامر». مع هذا، ظلت طوال الوقت تصرخ: «قتلة» (بالانكليزية)، في وجوه الجنود الإسرائيليين.
سحبوا الكوفية التي كانت تلف بها عنقها، وعصبوا عينيها بها. في هذه الأثناء، كان صوت تيريزا يصل الى أذنيها. تيريزا تقول للإسرائيليين إنه لا يحق لهم معاملة أوغاريت بهذه الطريقة لأنها صحافية. وعلى سطح السفينة الذي اقتيدت اليه، كان صوت سلام يملأ الهواء، مطالبة الإسرائيليين بإعادة المعدات التي صادروها منها. سلام تطمئن أوغاريت، المعصوبة العينين، قائلة: «أوغاريت. أنا قربك».
أثناء التحقيق
نقل ركّاب سفينة «الأخوة» إلى غرف داخلية. وضعت أوغاريت تحت مراقبة جندي إسرائيلي. سألها العسكري: «من أين أنت؟»، قاصداً السؤال عن البلد الذي تأتي منه. وأعاد السؤال نفسه ثلاث مرات.
في المرة الأولى أجابته هازئة: «من البلد الذي تحبونه كثيراً».
وفي الثانية، قالت: «من البلد الذي لكم فيه ذكريات ثمينة».
وفي الثالثة ردت: «لبنان».
تعترف أوغاريت بأن مشكلة الإسرائيلي معها نتجت من محاولاتها المستمرة للتمرد عليه واستفزازه، ما زاد من حدة غيظه. كانت مؤمنة بأن الإسرائيليين لن يقتلوا ركاب السفينة: «لأن القانون الدولي يحمينا». رغم ذلك، أطلق الإسرائيليون النار تجاههم للمرة الأولى، وكانوا حينها في المياه الإقليمية المصرية. وألقوا القبض عليهم، عندما كانوا في المياه الإقليمية الفلسطينية.
وقد حاول أحد الجنود الإسرائيليين التودد إلى الركاب. أحضر مياه شرب ليروي عطشهم. رفضوا تناولها، فعلق بالإنكليزية: «ألا تريدون مياهاً يهودية؟». وسمع إجابة على الوزن ذاته: «ألا تريد دماء عربية؟».
الجندي نفسه سيعرض على أوغاريت مرافقته للسهر معه في «تل أبيب»، وسيدور بينهما الحوار التالي:
ـ أفضّل أن أذهب إلى لبنان لأوقّع على صاروخ يرسله لكم السيد حسن نصر الله.
ـ أوف. يبدو أنك قوية. هل تحبين نصر الله؟ ـ لماذا؟ ألا تحبه أنت؟ـ كلا أكيد ـ. لكنه يملك «الكاريزما». ألا يلفت نظرك؟ ألا تستمع إلى خطاباته؟ـ كلا. كلا. كلا.
تكلّم عدد من الإسرائيليين بلهجة فلسطينية واضحة، حتى أن أحدهم أسرّ لمازن ماجد، زوج أوغاريت والمصور التلفزيوني في قناة «الجديد» الذي كان على متن السفينة أيضاً: «أنا درزي، واليوم يطلقون سراحكم». وكان لافتاً أن المجندين، الذين يعرفون من سنهم اليافع، كانوا يتسمون بالبساطة. أحدهم سأل عن المطربين في الساحة اللبنانية... غير أن البساطة لم تكن صفة جميع الجنود.
خلال التحقيق المباشر، رُفعت العصب عن عيون الركاب. معظم المحققين هم من المدنيين الذين تزيد أعمارهم عن الأربعين، وإحداهم امرأة. كانوا يتقنون العربية جيداً، ويتحدثون بالفصحى حتى لا تبان لهجتهم المحلية. كما أنهم قد استخدموا عبارات بذيئة.
حاول المحقق أن يغمز من زاوية موضوعية أوغاريت الصحافية فقال لها: «ألم يعلموك في الصحافة أن الصحافي يجب أن يكون محايداً؟». سمع جواباً يستحقه: «تعلّمت أنه يجب أن يكون صادقاً، لا سيما مع قتلة مثلكم». لا تخفي أوغاريت متعتها في استفزاز المحققين في أثناء التحقيق. وهي لا تنكر أن شخصيتها استفزازية بالفعل، «وقد أمارس اللؤم أحياناً».
سلام بدورها، أخضعت للتحقيق والضرب مرتين. الأسئلة كانت من نوع: «ما اسمك؟ ما اسم والدك؟ ما اسم والدتك؟». لا جواب. فقال المحقق: «على كل حال، رد فعلك متوقعة».
محقق آخر يتقن العربية ببراعة عرّف عن نفسه بأنه «من جهاز الأمن الوطني الإسرائيلي». قال لسلام: «نستطيع أن ننهي المسألة بسرعة ونستطيع أن نطيل الوقت»، وقد قال هذه العبارة بكثير من الجدية. عرضت عليه أن تسأله سؤالاً مقابل كل سؤال يطرحه هو، فلفت إلى انه سيجيب بقدر المسموح به. ومن سؤال الى سؤال، عرّف عن نفسه على أنه «ابراهيم»، ثم أوضح: «أبراهام». وقد أصر عدة مرات على معرفة طائفة سلام التي ظلت تجيبه: «لبنانية». وعندما قرأ على جواز السفر أن قيد نفوسها في بعقلين، سألها: «درزية؟». فحصل على الجواب نفسه: «لبنانية». عندها أردف: «تتعاملين معنا بسلبية». فردت سلام: «لأننا رهائنكم».
لن أرفع «الجرزاية»
بعد التحقيقات، حاول الإسرائيليون أن يخضعوا ركاب السفينة للفحص الطبي: «ربما لقياس حجم الضرر الذي قاموا به»، تقول سلام التي أدخلت الى إحدى غرف السفينة حيث كان يتواجد طبيب، وممرضة، وجندي مترجم، وكاتب.
طلب منها المترجم أن ترفع «الجرزاية» («الكنزة»، باللهجة الفلسطينية). وعندما سألت عن السبب، أكد لها أنهم يريدون قياس ضغط دمها، فرفضت. سئلت ما إذا كانت قد خضعت لعمليات جراحية، فلم تجب. سألت ما إذا كانت تعاني من حساسية، لم تجب أيضاً.
نحو الاثنتي عشرة ساعة كانت تلك التي قضاها العائدون «تحت التحقيق» في البحر. فالإسرائيليون قلبوا السفينة إلى «غرفة عمليات». وعندما استلمتهم المجموعة الإسرائيلية الثانية بعدما انزلوا إلى البر، اختفت المجموعة التي تولت التحقيق معهم على السفينة.
نزل الركاب إلى أرض ميناء أسدود. سألت أوغاريت عن مكانهم، فقالوا لها: «اسرائيل». سألت مجدداً: «فلسطين؟». طوال الوقت السابق، كانت تحاول أن تتوقع وزميلتها سلام خضر الوجهة التي سينقلهم الإسرائيليون إليها. لم تحاول أن تدخل في تفاصيل أكثر لأنها توقعت أن تكون الإجابة سلبية.
وقد نُقل الركاب بسيارتين مخصصتين لنقل السجناء، من أسدود إلى مركز قوات «اليونيفيل» في الناقورة. سيارة السجناء كانت مثل الغرفة السوداء، وكانت شديدة الحرارة بسبب حماوة الحديد الذي يشكل بنيانها. تنقسم كل واحدة من هاتين السيارتين إلى ثلاثة أقسام (وضعت أوغاريت دندش وسلام خضر سوية، ولكل قسم نافذتان مغطيتان بشبك وزجاج خاص في أعلى جدار السيارة، عرض الواحدة منهما لا يزيد عن السنتيمترات العشرة، وطولها لا يزيد عن السنتيمترات الأربعين.
ومن شباك إحدى هاتين السيارتين، رأت أوغاريت فلسطين للمرة الأولى.
تعرفت على بئر السبع وعلى عفّولة من خلال اللافتات التي كتبت بالعربية والعبرية. وتعرفت إلى حيفا، «المدينة الرائعة»، من خلال مصانعها.
تقول عن هذه اللحظات أن قلبها كاد يتوقف من شدة التأثر. كانت رؤية فلسطين أمراً كبيراً بالنسبة إليها.
وتقول سلام أيضاً أنها كانت «أكثر من سعيدة» لمرورها بفلسطين من جنوبها إلى شمالها: «ظللنا أنا وأوغاريت نتبادل الوقوف على النافذتين طوال الوقت. رأيت حيفا من بعيد، وعرفتها من منشآتها الصناعية. كانت مضاءة بقوة. وتأكدنا منها عندما تنشقنا رائحة النفط وقرأنا اللافتات. كما مرت السيارة بنا من مستوطنتي مسكافعام والمطلّة المواجهتين لبلدة كفركلا الجنوبية».
دامت رحلة البر هذه نحو ثلاث ساعات. في عدد من الأماكن، رأت أوغاريت أسهم تشير الى طريق القدس، وقالت في قرارة نفسها: «كيف سمحنا لنفسنا أن نخسر هذه الأرض بسهولة؟!».
أعاد الإسرائيليون كاميرات التصوير، لكنهم صادروا أجهزة الهاتف المحمولة وأجهزة «الثريا» (هاتف يلتقط الاشارة عبر الاقمار الصناعية)، وبطاقات الذاكرة الإلكترونية (memory cards) وأشرطة الفيديو.
تقول سلام أنها ما زالت لا تستوعب حتى الساعة ما حصل: «نحن صحافيون نغطي سفينة. فكيف يتم التعامل معنا بهذه الطريقة؟». تحاول أن تستجمع كل الصور، لتكوّن منها مشهداً واضحاً. أما أوغاريت فترى أن هذه التجربة زادتها طاقة وحيوية على الصعيد الشخصي. تقول أنها صارت تحب مواجهة الإسرائيليين أكثر، اليوم، بعد كل الذي مرت به... وخاصة أن «هناك احتمال أن اذهب مرة ثانية».