« يا كُمَيل بن زياد، إن هذه القلوب أوعيةً, فخيرُها أوعاها, فاحفَظْ عنّي ما أقول:
الناس ثلاثة: فعالِمٌ ربّاني, و متعلّم على سبيل نجاة, وهمجٌ رَعاع
أتباعُ كل ناعق, يميلون مع كلّ ريح ,لم يستضيئوا بنور العلم,
ولم يلجأوا إلى ركن وثيق فيَنجوا !...
يا كميل: العلم خيرٌ من المال, العلم يحرسك و أنت تحرس المال,
المال تنقصه النفقة, و العلم يزكو على الإنفاق, وصنيع المال يزول بزواله.
يا كُمَيل بن زياد، معرفة العلم دِين يُدان به. به يكسب الإنسانُ
الطاعةَ في حياته, وجميلً الأحدوثة بعد وفاته. والعلم حاكم, والمال محكوم عليه!...
يا كميل!.. هَلَك خزّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقيَ الدهر!..
أعيانُهم مفقودة, و أمثالهم في القلوب موجودة..
ها إنّ ها هنا ( وأشار إلى صدره الشريف ) لَعِلماً جَمّاً, لو أصبتُ له حَمَلةً!
بل أصبتُ لَقِناً غيرَ مأمون عليه, مستعملاً آلةَ الدِّين للدنيا, ومُستظهِراً
بنِعَم الله على عباده, وبحُججِه على أوليائه, أو منقاداً لحَمَلة الحقّ
لا بصيرةَ له في أحنائِه, ينقدح الشكُّ في قلبه لأولِ عارضٍ من شُبهةٍ !..
ألا, لاذا, ولا ذاك!.. أو منهوماً باللذة, سَلِسَ القياد للشهوة، أو مُغرَما
ً بالجمع والادّخار, ليسا من رُعاة الدِّين في شيء, أقربُ شيء شَبَهاً بهما الأنعامُ السائمة, كذلك يموت العلم بموتِ حامليه.
اللهمّ بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحُجّةٍ: إمّا ظاهراً مشهوراً,
و إمّا خائفاً مغموراً, لئلاّ تبطُلَ حجج الله وبيّناته! و كم ذا ؟ وأين أولئك ؟
أولئك ـ و اللهِ ـ الأقلّون عدداً, والأعظمون عند الله قَدْراً, يحفظ الله بهم
حُججَه وبيّناتِه, حتي يودعوها نظراءَ هم، ويزرعوها في قلوب أشباههم.
هجم بهم العلمُ على حقيقة البصيرة, وباشروا روح اليقين, واستلانوا ما استَوْعَره المترفون, وأنِسوا بما استوحش منه الجاهلون, وصحبوا الدّنيا بأبدانٍ
أرواحَها معلّقة بالمحلِّ الأعلى!
أولئك خلفاءُ الله في أرضه, والدعاة إلى دينه, آهٍ آهٍ شوقاً إلى رؤيتهم!..