منذ تأسيسها رفعت حركة أمل شعار الدفاع عن حقوق المحرومين، في الوقت الذي كانت تنحو فيه نحو تمثيل كل الفئات الاجتماعية داخل الطائفة الشيعية. هذا النهج التوفيقي بين مصالح شتى جعلها أقرب ما تكون الى تيار سياسي أكثر منها الى حزب عقائدي أو منظمة نخبوية، ما جعل البعض يشبّهها بحركة »فتح« الفلسطينية. وقد يكون لهذا الخيار الايديولوجي الفضفاض (أو خيار اللا إيديولوجيا) دور مُضمر في إطلاق اسم »الحركة« عليها. وهي بقيت محافظة على خطها السياسي الواقعي رغم ظروف الحرب الأهلية، ورغم مشاركتها الفعالة في عمليات المقاومة الوطنية بعد عام .١٩٨٢ وقد كانت الوحيدة من بين الأحزاب اللبنانية التي أوصلت زعيمها الى ترويكا الرئاسات الأولى بعد الحرب. وهي بذلك ملأت فراغ »الإقطاع السياسي« الذي تمثل لفترة طويلة بالزعامة الأسعدية المتحالفة آنذاك مع اليمين اللبناني خارج مزاج النُخب والقواعد الشيعية. وقد تفوقت حركة أمل على قوى اليسار في استقطاب الجمهور الشيعي في »اللحظة الثورية« التي أفضت الى هزيمة الإقطاع السياسي. إلا أن هذا الأمر لم يعصم الحركة من الوقوع في الأخطاء التي كانت تخرج منها سالمة بفضل قوة الرئاسة فيها. أما قاعدتها الشعبية فقد بقيت على الدوام متنوعة ومفتوحة أمام مختلف فعاليات الطائفة الشيعية الطامحة للعب أدوار سياسية أو إدارية داخل مؤسسات الدولة. وهي ظاهرة لم تخرج عن تقاليد الحياة السياسية اللبنانية بعد الطائف. فالحكومات المتعاقبة وضعت في أولوياتها استيعاب جيل كبير من الشباب الخارج من الحرب في مؤسسات القطاع العام. هذه الحيثيات رغم أهميتها، لم تحل دون طغيان قوة الزعامة على قوة التنظيم داخل الحركة. بل على العكس. فالرئيس نبيه بري تحول الى زعيم لبناني يحتل موقعا سياسيا أوسع وأكبر من الحركة التي يرأسها. وقد فعل ذلك وفي جعبته امتياز يُحسب في مصلحته، يتمثل في أنه لم يدخل قصر الزعامة من باب الوراثة. وهو الذي كان يملك ـ ولم يزل ـ فضيلة القول »إنه ضد المحاصصات الطائفية على صعيد الدولة، لكن إذا ما أصر الآخرون عليها، فإنه أول من سيُطالب بحصته عن الشيعة«. في هذا الموقف قليل من المثالية وكثير من البراغماتية السياسية. فيه ايضا تحديد لوجهة نظر مبدئية من قضية أساسية، وفي الوقت ذاته موقف عملاني تداولي من حيثيات على الأرض تحول دون تطبيق وجهة النظر تلك. وهو ما يشبه موقف الحركة من قانون الانتخابات، حيث تبنّت مبدأ الدائرة الواحدة على أساس النسبية، فيما لم تسمح مصالح الطبقة السياسية »والاكليروس الديني« بأكثر من قانون عام .١٩٦٠ انه نهج سارت عليه الحركة في تعاملها مع القضايا اللبنانية. فكانت تشارك في الصراعات السياسية وغير السياسية من أجل إيجاد تسويات مرحلية تعكس موازين القوى السائدة. وعلى الرغم من بعض الصعوبات التي واجهتها في مراحل معينة، فقد بقيت لاعبا أساسيا لا غنى عنه على الساحة السياسية. بيد أن إمساكها بكرة نار الوظائف والصناديق المالية خلق لها الكثير من المشاكل وجلب لها من الأخصام أكثر مما جلب من الأصدقاء في غياب البديل المادي والخدماتي المتوافر لغيرها.
أما اليوم، فهناك مَن يرى في قاعدتها الاجتماعية ومنحاها المدني الليبرالي مع تمسكها بثوابتها الوطنية التي أرساها الإمام موسى الصدر، مصادر قوة في المرحلة الراهنة. وما الدور ـ المايسترو ـ الذي يلعبه حاليا رئيسها على جبهتي الحوار والصراع في لبنان، سوى تعبير عن موقع الحركة المحوري داخل الطائفة الشيعية وداخل الكيان اللبناني. وليس سراً أن هناك أسئلة تُطرح داخل الأوساط السياسية اللبنانية عن آفاق الدور المتاح للرئيس بري على صعيد التوصل الى صيغة لبنانية تُنقذ البلد من حالة التفكك السياسي والطوائفي. فحتى لو كانت التسويات تبدو اليوم صعبة، فإن الجميع محكومون بها ما دامت الأمور لم تصل بعد الى نقطة اللاعودة. إن هناك شعورا متزايدا بأهمية تعزيز الدور الحواري الذي يضطلع به رئيس حركة أمل تلبية لحاجات وطنية ملحة (موضوع المقاومة) وتجاوبا مع حاجات تأسيسية أكثر إلحاحا (بناء الدولة). وهو ما تجلى سابقا في مؤتمر الحوار الوطني وفي المفاوضات الماراتونية بين الموالاة والمعارضة.
اليوم تُمسك حركة أمل العصا من وسطها. فهي جزء من الواقع السياسي الذي يحمي ظهر المقاومة من جهة، وفي الوقت ذاته هي اللاعب الشيعي الرسمي المفوض من طائفته (ومن حزب الله) ـ بحكم موقع الرئاسة الثانية ـ لمتابعة ملف البحث عن الدولة الضائعة مع سائر الأطراف اللبنانية.
لقد أطاحت الأحداث المتلاحقة مكوّنات الدولة »الأولية«، ما جعلها أشبه بمصنع كبير فيه مدراء وموظفون وعمال وحراس أمن، لكن آلاته معطلة، بحيث لا تستطيع أن تنتج أي سلعة، في الوقت الذي تؤمن فيه الرواتب إما عن طريق »البلطجة الضريبية« الممارسة على أضعف حلقات المجتمع، وإما عن طريق الصدقات الخارجية.
إنها بلا شك لوحة سوريالية لمجتمع ما زال يبحث عن أطلال دولته وسط ركام التاريخ والجغرافيا، وركام الاجتماع السياسي. ناهيك عن أحزابه العلمانية »الافتراضية« التي تكاد لا تُلحظ على الخارطة السياسية على الرغم من كثرة عدد مؤيديها »الصامتين« ومحبذيها »بالمفرد«... و»بالضمير المستتر«.
فحين تتصارع الجماعات كما يحدث اليوم، يهرب الأفراد نحو »محمياتهم الطبيعية« حيث لا وجود للدولة إلا بصفتها كائنا غريبا معتديا على الحقوق والكرامات، وفي أفضل الأحوال متقاعسا عن القيام بأبسط واجباته.
تلك الظروف تذكّر ببدايات حركة أمل في السبعينيات مع مؤسسها الإمام موسى الصدر الذي أطلق شعار »المقاومة اللبنانية المؤمنة« ونادى بالعيش المشترك والحوار بين اللبنانيين كخيار بديل عن الحرب الأهلية. وكانت دعوته الشهيرة للمسلمين والمسيحيين للالتقاء والاعتصام ما بين الشياح وعين الرمانة رفضا للحرب، سببا للتشكيك في مواقفه الوطنية من قبل المتحمسين لها آنذاك. اليوم تجد حركة أمل نفسها في موقف مشابه، في الوقت الذي يدرك فيه الجميع أن الذهاب الى الحرب يعني انتحار اللبنانيين بإرادتهم أو بإرادة غيرهم. الى نُذُر الانقسامات اللبنانية حول هوية لبنان ودوره في المنطقة وطبيعة نظامه السياسي وتوازناته الطائفية، فضلا عن الاستراتيجية الدفاعية التي يحتاج اليها، هي على درجة من القوة بحيث باتت تهدد تماسك البلد. فالصراع الأهلي مستمر على كل المستويات. والجميع يعد العدة لجولات داخلية وخارجية من العنف السياسي والأمني على الرغم من أطنان الكلام عن الحوار والاستقرار. لكن السؤال يبقى: هل من فرصة حقيقية لتسويات تحفظ لبنان دولة مستقلة على خارطة العالم؟ وهل يلعب نبيه بري دور موسى الصدر لكن في ظروف أكثر تعقيدا؟
هذا التساؤل نابع من حقيقة أن أي تغيير في طبيعة النظام السياسي يحتاج الى إرادة القوى السياسية اللبنانية وتوافقها. لهذا السبب فإن الأخطار التي تهدد اللبنانيين اليوم لا تسمح بترف تجاهل الطبقة السياسية أو إعفائها من مسؤولياتها. والأخطار نفسها تفرض على المهتمين بالشأن العام أن يدركوا أهمية الدعوة الى اعتماد الحلول الجذرية التي من دونها لن تقوم قائمة لهذا الوطن. فالحلول المرحلية وأنصاف الحلول تبدو بمثابة جرعات سامة بطيئة المفعول لن ينتج منها سوى الألم والمعاناة. فلقد أُنهك هذا »المريض الهش« بما فيه الكفاية، وأصبح على اللبنانيين أن يحددوا شكل الدولة القانوني القادر على ترويض مجتمعاتهم المصابة »بالوسواس القهري«. فكيف بإمكان مجتمعات يخاف بعضها من بعض أن تتبنى استراتيجية دفاعية مشتركة؟ وكيف بإمكانها صياغة ثقافة وطنية واحدة إذا لم تكن لديها دولة؟
للتذكير فإن برنامج الإصلاح المرحلي للحركة الوطنية أيام السبعينيات لم يتحقق على الرغم من قوة أحزاب اليسار في ذلك الوقت، بسبب عدم توافر الوعي والمصلحة لدى شرائح لبنانية أساسية.
أما اليوم فإن معظم اللبنانيين يدركون فداحة غياب الدولة. تلك القائمة على أساس »المواطنة« والفصل بين الإيمان باعتباره مسألة شخصية (ومجتمعية) والدولة باعتبارها عقدا قانونيا يساوي بين جميع المتعاقدين.
إن نقلة كبيرة من هذا النوع لن تصنعها ثورة شعبية مدنية بيضاء بسبب الانقسامات الطائفية. لكن بإمكان عقلاء الطبقة السياسية الحريصين على بقاء البلد أن يصنعوا مرحلة انتقالية باتجاه إقامة دولة طبيعية خالية من التشوهات الخلقية، دولة تضع موضع التطبيق خطة دفاعية تحمي استقلالها وأمنها من الاعتداءات الاسرائيلية، وتقيم علاقات طبيعية مع سوريا. انها طموحات تتضمن خطوات جذرية قد تجد بعض القوى غير الجذرية مصلحة في تحقيقها افتداء للوطن الذي يحتضر. خاصة أن عهدا جديدا قد بدأ مع الرئيس ميشال سليمان، ما يعطي للحوار الوطني قوة دفع كان يحتاج إليها. فإذا كان ترؤس فخامته طاولة الحوار سوف يعفي دولة الرئيس بري من هذا الدور، إلا انه لن يعفيه من دور صانع الديناميكية الحوارية بين مختلف الأطراف، فهل ينجح أركان الطبقة السياسية في شق طريق سالكة باتجاه دولة المؤسسات والقانون؟ وهل بمقدور تيار سياسي وسطي مخضرم أن يلعب دور عرَّاب عملية التغيير التي ستؤدي في نهاية المطاف الى قيام الدولة المنتظرة؟ هل من »أمل«؟
([) كاتب لبناني
المصدر: جريدة السفير