أبو سفيان المدينةَ لتجديد العهد بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وبين قريش ، عندما كان من بني بكْرِفي خُزاعة وقتلهِم من قتلوا منها ، فقَصَد أبو سفيانَ ليتلافى الفارطَ من القوم ، وقد خاف من نصرة رسول اللة صلّى الله عليه وآله لهم ، وأَشْفَقَ ممّا حلّ بهم يوم الفتح . فأتى النبي صلّى الله عليه وآله وكلّمه فى ذلك ، فلم يَرْدُدْ عليه جواباً . فقام من عنده ، فلَقِيه ابو بكر فتشبًثَ به وظنّ أنّه يُوصِله إلى بغْيته من النبي صلّى اللّه عليه وآله فسأله كلامَه له ، فقال : ما أَنا بفاعل . لعلم أبي بكر بأنّ سؤاله في ذلك لا يُغني شيئاً . فظنّ أبوسفيان بعمر بن الخطاب ما ظنّه بأبي بكر فكلّمه في ذلك ، فدفعه بغِلظةٍ وفَظاظَةٍ كادت أن تفسِدَ الرَّأيَ على النبي صلى اللّه عليه وآله . فعدل إلى بيت أمير المؤمنين علَيه السلام فاستأذن عليه ، فأذِن له وعنده فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فقال له : يا علي ، إنّك أمسُّ القوم بي رَحِماً، وأقربهُم منّي قرابةً، وقد جئتُك فلا أَرجِعَنً كما جئتُ خائباً، إشفَعْ لي إلى رسول الله فيما قصدتُه . فقال له : «ويْحَكَ - يا باسفيان - لقد عَزَم رسول اللّه صلّى الله عليه واله على أمرٍ ما نستطيع أن نُكَلِّمَه فيه» فالتفتَ أبو سفيان إلى فاطمة عليها السلام ، فقال لها : يا بنتَ محمّد هل لكِ أن تَأمُري ابنَيْك أن يُجِيرا بين الناس فيكونا سيدَي العرب إلى آخر الدهر. فقالت : «ما بَلَغ بنَيّاي أن يُجِيرا بين الناس ، وما يُجير أحدٌ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله». فتحيّر أبو سفيان (وسُقِطَ في يده )، ثمّ أقبل على أمير المؤمنين عليه السلام فقال : يا با الحسن ، أرى الأمورَ قد التبستْ عَلَيّ فانصَحْ لي . فقال له أميرُ المؤمنين : «ما أرى شيئاً يُغني عنك ولكنّك سيّدُ بني كِنانة فقُمْ فأجِرْ بين الناس ، ثمّ اِلحَقْ بأرضك» قال : فترى ذلك مُغنياً عنّي شيئاً؟ قال : «لا والله ما أظُنّ ولكنّي لا أجِدُ لك غيرَ ذلك». فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيّها الناس ، إنّي قد أَجَرْت بين الناس . ثمّ رَكِبَ بعيرَه فانطلق . فلمّا قَدِمَ على قريش قالوا : ما وراءَك ؟ قال : جئتُ محمّداً فكلّمتُه ، فواللّه ما رَدّ عليّ شيئاً، ثمّ جئتُ ابن أبي قحافَة فلم أَجِد فيه خيراً، ثمّ لَقِيتُ ابنَ الخطاب فوجدته فَظّاً غليظاً لا خيرَ فيه ، ثم أتيت علياً فوجدتُه ألين القوم لي ، وقد أشارعليَّ بشيء فصنعتُه ، واللّه ما أدري يُغني عنّي شيئاَ أم لا، فقالوا : بما أمَرك ؟ قال : أمرني أن أُجِيرَ بين الناس ففعلت: فقالوا له : فهل أجاز ذلك محمّد؟ قال : لا. قالوا : ويلك واللّه ما زاد الرجل على أن لَعِبَ بك ، فما يُغني عنك ؟ قال أبو سفيان : لا واللّه ما وَجَدتُ غيرَ ذلك . وكان الذي فعله أميرُ المؤمنين عليه السلام بأبي سفيان من أصوب رأيٍ لتمام أمر المسلمين وأصحّ تدبير، وبه تَمّ للنبي صلّى اللّه عليه وَآله في القوم ما تمَّ .
ألا ترى أنَّه عليه السلام صَدَق أبا سفيان عن الحال ، ثمّ لان له بعضَ اللين حتّى خَرَج عن المدينة وهو يَظُنُّ أنّه على شيء ، فانقطع بخروجه على تلك الحال موادُّ كيده التي كان يتشعَّثُ بها الأمرُعلى النبي صلّى الله عليه وآله .وذلك أنّه لوخرج آئِساً حَسَب ما أيْأسَه الرجلان ، لتجدَّدَ للقوم من الرأي في حَربه عليه السلام والتحرّزمنه ما لم يخطر لهم ببال ، مع مجيء أبي سفيان إليهم بما جاء، أوكان يقيم بالمدينة على التمحّل لتمام مراده بالاستشفاع إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله فيتجدّدُ بذلك أمرٌ يَصُدّ النبيَ صلّى اللّه عليه وآله عن قَصد قريش ، أويُثَبِّطه عنهم تثبيطاً يفوته معه المرادُ، فكان التوفيقُ من اللّه تعالى مقارناً لرأي أمير المؤمنين عليه السلام فيما رآه من تدبير الأمر مع أبي سفيان ، حتى انتظَمَ بذلك للنبي صلّى اللّه عليه وآله من فتح مكةّ ما أراد
ولما أمَرَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله سعدَ بن عُبادة بدخول مكّة بالراية ، غَلظ على القوم وأظهَرَ ما في نفسه من الحنَق عليهم ، ودخل وهو يقول :
اَليومُ يــــــومُ المَلْحَـــمه * اَلـــيومُ تــُسـبـَىالحُرمه
فسَمِعَها العباسُ رضي الله عنه فقال للنبي صلّى ّ الله عليه وآله : أما تَسْمَعُ يا رسولَ اللّه ما يقولُ سَعدُ بن عُبادة ؟ إنّي لا امَنُ أن يكونَ له في قريش صَوْلةٌ . فقال النبي صلّى اللّه عليه واله لأمير المؤمنين عليه السلام : «أدركْ - يا علي - سَعداً فخُذ الرايةَ منه ، وكُنْ أنت الذي يَدْخُلُ بها مكّة» فأدركه أميرُ المؤمنين عليه السلام فأخَذَها منه ، ولم يَمْتَنعْ عليه سعدٌ من دفعها. فكان تلافي الفارط من سَعد في هذا الأمر بأمير المؤمنين عليه السلام ، ولم يَرَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله أحداً من المهاجرين والأنصار يَصْلَح لأخذ الراية من سيّد الأنصار سوى أمير المؤمنين عليه السلام ، وعَلِمَ أنَّه لو رام ذلك غيره لامتَنَع سَعدٌ عليه ، فكان في امتناعه فسادُ التدبير واختلافُ الكلمة بين الأنصار والمهاجرين ، ولمّا لم يكن سعدٌ يَخفِضُ جَناحَه لأحدٍ من المسلمين وكافّةِ الناس سوى النبي صلّى اللّه عليه وآله ولم يكن وجهَ الرأي تَوَلّي رسولِ الله عليه السلام أَخْذَ الرايةَ منه بنفسه ، وَلّى ذلك من يَقوُم مقامَه ولا يتميَّزُ عنه ، ولا يَعْظُمُ أحدٌ من المقُرّين بالملّة عن الطاعة له ، ولا يَراه دونه في الرتبة .
وفي هذا من الفضل الذي تَخَصّصَ به أميرُ المؤمنين عليه السلام ما لم يَشركه فيه أحدٌ ، ولا ساواه في نظيرٍ له مساوٍ ، وكان عِلْمُ اللّه تعالى ورسوله عليه السلام في تَمام المصلحة بإنفاذ أمير المؤمنين عليه السلام دونَ غيره ، ما كَشَفَ عن اصطفائه لجسيم الأُمور، كما كان عِلْمُ اللّهِ تعالى فيمن اختارَه للنُبوّة وكمالِ المصلحة ببِعْثته كاشفاً عن كونهم أفضلَ الخلق أجمعين .
وكان عهدُ رسول اللّه صلّى الله عليه وآله إلى المسلمين عند توجّهه إلى مكّة، ألاّ يقتُلُوا بها إلاّ من قاتلهم ، وامَنَ من تعلق بأستار الكعبة سوى نفر كانوا يُؤذونه صلّى اللّه عليه واله منهم : مِقْيَسُ بن صُبابة وابنُ خَطَل عبد العُزّى وابن أبي سَرْح وقَيْنَتان كانتا تُغَنّيان بهجاء رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وبمراثي أهل بدر، فقتل أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إحدى القَيْنَتين وأفلَتَتِ الأخرى ، حتّى استوْمِن لها بعد، فضَرَبها فرسٌ بالأبطح في إمارة عُمربن الخطّاب فقتلها . وقَتَل أميرُ المؤمنين عليه السلام الحُوَيْرِث بن نُقَيذ بن كَعْب ، وكان ممّن يؤُذي رسولَ الله صلّى الله عليه وآله بمكّة . وبَلَغَه عليه السلام أنّ أُختَه أًمَّ هانئ قد آوتْ ًناساً من بني مَخزُوم ، منهم : الحارث بن هِشام وقَيْسُ بن السائب ، فقصد عليه السلام نحوَ دارها مُقَنّعاً بالحديد، فنادى : «أَخْرِجوا من آوَيْتُم» قال : فجعلوا يَذْرُقون - والله - كما تَذْرُق الحبارى خوفاً منه . فخَرَجَتْ اُمُّ هانئ - وهي لا تَعرِفه - فقالت : يا عبدَالله ، أنا اُمّ هانئ بنتُ عمِّ رسول اللّه واُختُ عليّ بن أبي طالب انصَرِفْ عن داري . فقال أميرُ المؤمنين عليه السلام : «أخْرِجوهم» فقالت : واللّه لأَشكُوَنّك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، فنَزَع المِغْفَر عن رأسه فعَرَفَتْه ، فجاءَتْ تَشْتَدّ حتى التزَمَتْه وقالت : فَدَيْتُك ، حَلَفْتُ لأشكُوَنَّك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقال لها: «إذهَبي فَبرِّي قَسَمَك فإنّه بأعلى الوادي» . قالت أمّ هانئ : فجئتُ إلى النبي صلّى اللّه عليه واله وهو في قُبّةٍ يغتسل ، وفاطمة عليها السلام تَسْتُرُه ، فلمّا سَمِعَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله كلامي قال : «مَرْحَباً بكِ يا اُمّ هانئ وأَهلاً» قلت : بأبي أنت واُمّي ، أشكُو إليك ما لقِيتُ من عليّ اليوم . فقال رسول ّ الله صلّى الله عليه وآله «قد أَجَرت من أجرتِ» فقالت فاطمة عليها السلام : «إنّما جئتِ يا اُمّ هانئ تَشْتَكين عليّاً في أنّه أخافَ أعداءَ الله وأعداءَ رسوله!» فقال رسولُ الله صلّى الله عليه واله : «قد شَكَر اللّه لعليّ سعيَه ، وأَجَرْتُ من أجارتْ اُمّ هانئ لمكانِها من علىّ بن أبي طالب». ولمّا دخل رسولُ اللّه صلّى الله عليه واله المسجد، وَجَد فيه ثلاثمائة وستّين صَنَماً، بعضُها مشدودٌ ببعض بالرَصاص ، فقال لأمير المؤمنين عليه السلام : «أعطِني يا عليّ كفّاً من الحَصى» فقَبَض له أميرُ المؤمنين كَفّاً فنَاوَله ، فرماها به وهو يقول : (قُلْ جاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقا) فما بَقَيِ منها صنمٌ إلا خَرَّ لوجهه ، ثمّ أَمَرَ بها فأُخْرِجَتْ من المسجد فطُرِحَتْ وكًسِرتْ .
هذه القصة نقلا عما ورد في كتاب الارشاد .