وقد مر عليكم الشيء الكثير مما يتعلق بهذا الإمام العظيم من عوامل التشريف والتأثير في نفسيته الطاهرة (عليه السلام) من حيث الميلاد والمواهب والمزايا والخصائص والتربية، فأنتجت تلك العوامل الإلهية والنبوية أحسن إنتاج، وجعلت نفس علي مركزاً لانطلاق كل فضيلة وخير فلا عجب إذا كان الإمام (عليه السلام) صوتاً للعدالة الإسلامية ورمزاً للفتوة والمروءة ومثالاً للعطف والحنان الأبوي.
وأصحاب النفوس الشريفة تختلف هواياتهم عن غيرهم، فهم دائماً وأبداً يلبون نداء ضميرهم الإنساني، ويستلذون بإسعاف الفقير والمسكين.
ويبتهجون بإشباع البطون الجائعة وإكساء الأجساد العارية وإنقاذ البؤساء من براثن الفاقة، وحيث إنهم أشربوا معرفة الله تعالى وخالط حب الله لحومهم ودماءهم فإن أسعد أوقاتهم وألذها عندهم هي الساعات التي يشتغلون فيها بمناجاة ربهم والخضوع والخشوع أمام عظمة الله تعالى، فلا يملّون من العبادة كما لا يملّ الحبيب من مكالمة حبيبه.
وجملة أخرى لا بأس بالإشارة إليها وهي أن الإنسان حينما يحس بالنقص في نفسه من حيث العلم أو الفن أو الفضيلة أو القوة أو الجمال أو ما شابه ذلك فإنه يحاول إخفاء ذلك النقص وجبران ذلك العيب عن طريق التزيين والتجميل في الملبس والمسكن وسائر لوازم الحياة ومظاهر الترف، كل ذلك إرضاء لوجدانه وضميره الذي يؤنبه بالنقص، أما أولياء الله فإنهم يحسون بالكمال في أنفسهم، فهم في غنى عن ستر النقص عن طريق التجميل والتفنن في الملبس والمأكل والمسكن وما جرى مجرى ذلك لأنه لا نقص فيهم.
وعلى هذا الأساس كانوا يختارون لأنفسهم البساطة في المعيشة، ويتجلى الزهد في جميع مظاهر حياتهم بدون أي تكلف وتعسف، فلا يشتاقون إلى اختلاف الأطعمة ولا تميل نفوسهم إلى زخارف الحياة وزبرجها، فإن الإحساس بالكمال يحول بينهم وبين الشعور بالحاجة إلى ما تتهافت عليه نفوس الآخرين من حطام الدنيا.
فإذا قرأنا أو سمعنا عن نبي أو إمام شيئاً من الزهد وعدم الإقبال على مباهج الحياة فلعله معلول هذه العلة التي تقدمت.
وسنذكر ما تيسر من الأخبار والأحاديث التي اشتهرت بين أعلام الحديث وحفاظه حول الفضائل النفسية التي أنعم الله بها على أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام).
قال ابن أبي الحديد في مقدمته على شرح نهج البلاغة:
وما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل؟ ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله؟ فقد علمت أنه استولى بني أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره، والتحريف عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم ومنعوا من راوية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذكراً، حتى حضروا أن يسمى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعة وسمواً، وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه وكلما كتم تضوع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة.
وما أقول في رجل تُعزى إليه كل فضيلة؟ وتنتمي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عذرها وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها.
وكل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى...
وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية والفضائل النفسية والدينية وجدته ابن جلاها، وطلاّع ثناياها.
إن أولى الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) من يحكم نفسه ويسمو بها فوق الأحقاد إيثاراً لمكارم الأخلاق، وكذلك كان أمير المؤمنين (كرّم الله وجهه)، فما يعرف التاريخ أنه خضع لنزوة أو استسلم لشهوة، شأن أحرار النفوس الذين نشأهم بيت النبوة في ظلال وارفة من كرم المروءة وأدب الإسلام.
وآية ذلك الذي نقول ما يرويه الثقات من البصراء بأحداث التاريخ أن حجر بن عدي الكندي، خرج في أصحاب له يظهرون البراءة من أهل الشام وفي طليعتهم معاوية، فأرسل الإمام (كرم الله وجهه) إليهم يقول لهم: كفوا عما بلغني عنكم. فجاء إليه القوم مع زعيمهم حجر.
فقالوا: يا أمير المؤمنين، ألسنا على الحق؟
قال: بلى.
فقالوا: أليسوا هم مبطلين؟
قال الإمام: بلى هم مبطلون.
فسأله القوم: لم منعتنا من شتمهم إذن؟
قال: كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين. وخير لكم أن تصفوا مساوئ أعمالهم فتذكروا من سيرتهم ما يقوم مقام شتمهم، فذلك أصوب في القول وأبلغ في العذر. وحبذا لو استبدلتم بذلك كله دعاء صالحاً لهم: (اللهم أحقن دماءهم ودماءنا، وأصلح ذات بينهم وبيننا، اللهم وأهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق منهم من جهله، ويرعوي عن الغي من لهج به).
ولم يسع القوم إلا أن يجيبوا الإمام بقولهم: نقبل عظتك ونتأدب بأدبك.
وإذا كان لكل موقف عبرة، فإن عبرة هذا الموقف أن الذين نهى الإمام عن سبهم أطلقوا ألسنتهم في سبه حتى كانوا يسبونه على منابر الجمعة.
ومن العجيب في هذا أنه (عليه السلام) أباح لأوليائه أن يسبوه على قدر ما حذرهم أن يتبرأوا منه. فذلك قوله (كرم الله وجهه): (أما أنه سيظهر عليكم بعدي رجل سيأمركم بسبي والبراءة مني. أما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرأوا مني فإني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة).