قاله بعد تلاوته: * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)
يَا لَهُ مَرَاماًمَا أَبْعَدَهُ! وَزَوْراًمَا أَغْفَلَهُ وَخطراً مَا أَفْظَعَهُ! لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْأَيَّ مُذّكرٍ، وَتَنَاوَشُوهُمْمِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ! أَفَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ! أَمْ بِعَدِيدِ الْهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ! يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ وَحَرَكَاتٍ سَكَنَتْ، وَلاَََنْ يَكُونُوا عِبَراً، أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً، وَلاَََن يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ، أَحْجَىمِنْ أَنْ يَقُوموُا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ!
لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ وَضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَةٍ، وَلَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ وَالْرُّبُوعِالْخَالِيَةِ، لَقَالَتْ: ذَهَبُوا فِي الاََْرْضِ ضُلاَّلاً وَذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالاً، تَطَأُونَ فِي هَامِهِمْ وَتَسْتَنْبِتُونَفِي أَجْسَادِهِمْ، وَتَرْتَعُونَفِيَما لَفَظُوا، وَتَسْكُنُونَ فِيَما خَرَّبُوا، وَإِنَّمَا الاََْيَّامُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ بَوَاكٍوَنَوَائِحُعَلَيْكُمْ.
أُولئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ وَفُرَّاطُمَنَاهِلِكُمْ الَّذِينَ كَانتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ، وَحَلَبَاتُالْفَخْرِ، مُلُوكاً وَسُوَقاً سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِيلاً سُلِّطَتِ الاََْرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ، فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ، وَشَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِقُبُورِهِمْ جَمَاداً لاَ يَنْمُونَ وَضِماراًلاَ يُوجَدُونَ، لاَ يُفْزِعُهُمْ وُروُدُ الاََْهْوَالِ، وَلاَ يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ الاََْحْوَالِ، وَلاَ يَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ وَلاَ يَأْذَنُونَلِلْقَوَاصِفِ غُيَّباً لاَ يُنْتَظَرُونَ، وَشُهُوداً لاَ يَحْضُرونَ،
وَإِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا، وَآلاَفاًفافْتَرَقُوا، وَمَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ، وَلاَ بُعْدِ مَحَلِّهِمْ، عَمِيَتْ أخْبَارُهُمْ، وَصَمَّتْدِيَارُهُمْ، وَلكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً، وَبِالسَّمْعِ صَمَماً، وَبِالْحَرَكَاتِ سُكُوناً، فَكَأَنَّهُمْ فِي ارْتِجَالِ الصِّفَةِصَرْعَىسُبَاتٍ
جِيرَانٌ لاَ يَتَأَنَّسُونَ، وَأَحِبَّاءُ لاَ يَتَزَاوَرُونَ، بَلِيَتْبَيْنَهُمْ عُرَاالتَّعَارُفِ، وَانْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الاِِْخَاءِ، فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَهُمْ جَمِيعٌ، وَبِجَانِبِ الْهَجْرِ وَهُمْ أَخِلاَّءُ، لاَ يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحاً، وَلاَ لِنَهَارٍ مَسَاءً. أَيُّ الْجَدِيدَيْنِظَعَنُوا فِيهِ كَانَ عَلَيْهِمْ سَرْمَداً، شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا، وَرَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا،
فَكِلا الْغَايَتَيْنِمُدَّتْ لَهُمْ إِلَى مَبَاءَةٍ فَاتَتْ مَبَالِغَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا لَعَيُّوابِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَمَا عَايَنُوا، وَلَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ، وَانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ، لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ وَسَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ، وَتَكَلَّمُوا مِنْ غَيْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ، فَقَالُوا: كَلَحَتِالْوُجُوهُ النَّوَاضِرُكل، وَخَوَتِالاََْجْسَادُ النَّوَاعِمُ، وَلَبِسْنَا أَهْدَامَالْبِلَى، وَتَكَاءَدَنَا ضِيقُ الْمَضْجَعِ، وَتَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ، وَتَهَكَّمَتْعَلَيْنَا الرُّبُوعُالصُّمُوتُ فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا، وَتَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا، وَطَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا، وَلَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجاً، وَلاَ مِنْ ضِيقٍ مُتَّسعاً!
فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ، أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ، وَقَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّفَاسْتَكَّتْ وَاكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَابِ فَخَسَفَتْ وَتَقَطَّعَتِ الاََْلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلاَقَتِهَا وَهَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا، وعَاثَفِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جدِيدُ بِلىًسَمَّجَهَا وَسَهَّلَ طُرُقَ الاَْفَةِ إِلَيْهَا، مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلاَ أَيْدٍ تَدْفَعُ، وَلاَ قُلُوبٌ تَجْزَعُ، لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ وَأَقْذَاءَ عُيُونٍ لَهُمْ فِي كَلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لاَ تَنْتَقِلُ، وَغَمْرَةٌلاَ تَنْجَلِي.
فَكَمْ أَكَلَتِ الاََْرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَدٍ، وَأَنِيقِلَوْنٍ، كَانَ فِي الدُّنْيَا غَذِيَّ تَرَفٍ، وَرَبِيبَشَرَفٍ! يَتَعَلَّلُبالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِهِ، وَيَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَةِ إِنْمُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ، ضَنّاًبِغَضَارَةِ عَيْشِهِ وَشَحَاحَةًبِلَهْوِهِوَلَعِبِهِ! فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى الدُّنْيَا وَتَضْحَكُ إِلَيْهِ فِي ظِلِّ عَيْشٍ غَفُولٍ إِذْ وَطِىءَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَكَهُ وَنَقَضَتِ الاََْيَّامُ قُوَاهُ، وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ الْحُتُوفُمِنْ كَثَبٍ، فَخَالَطَهُبَثٌّلاَ يَعْرِفُهُ، وَنَجِيُّهَمٍّ مَا كَانَ يَجِدُهُ، وَتَوَلَّدَتْ فِيهِ فَتَرَاتُحة عِلَلٍ، آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِهِ،
فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ الاََْطِبَّاءُ مِنْ تَسْكِينِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ وَتَحْرِيكِ الْبَارِدِ بالْحَارِّ، فَلَمْ يُطْفِىءْ بِبَارِدٍ إِلاَّ ثَوَّرَ حَرَارَةً، وَلاَ حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلاَّ هَيَّجَ بُرُودَةً، وَلاَ اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍلِتِلْكَ الطَّبَائِعِ إِلاَّ أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاءٍ، حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ وَذَهَلَ مُمَرِّضُهُ، وَتَعَايَا أَهْلُهُ بِصِفَةِ دَائِهِ، وَخَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّائِلِينَ عَنْهُ، وَتَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِيَّ خَبَرٍ يَكْتُمُونَهُ، فَقَائِلٌ [يَقُولُ] هُو لِمَا بِهِ وَمُمَنٍّلَهُمْ إِيَابَعَافِيَتِهِ، وَمُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ، يُذَكِّرُهُمْ أُسَىالْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِهِ. فَبَيْنَا هُوَ كَذلِكَ عَلَى جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا، وَتَرْكِ الاََْحِبَّةِ، إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ، فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ وَيَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ، فَكَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَيَّعَنْ رَدِّهِ، وَدُعَاءٍ مُؤْلِمٍ لِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عنْهُ، مِنْ كَبِيرٍ كَانَ يُعَظِّمُهُ، أَوْ صَغِيرٍ كَانَ يَرْحَمُهُ! وَإِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍهِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ، أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِأَهْلِ الدُّنْيَا.