كان ممنوع علينا ان نحلم
كنا اذا اغمضنا عيوننا نبصر مركباً وخيول عزرائيل تشق اثلام القرى ونرى الرياح تسوق جثتنا الى العراء.
كانت اجسادنا ترحب بإستقالة ارواحنا،
وكانت جيوش الحزن تفتك بشمسنا وقمرنا،
كان الوهم وحده يدق على ابوابنا بيد الفزع المشلولة،
كنا نتبادل اطراف الحديث عن آخر القتلى وقوافل المهجرين.
كنا نردم رماد منازلنا على جمر قلوبنا، وكنا نرسم ضحايا حروبنا شهداء نعلقهم على الجدران الاخيرة لوطننا.
كان ذلك قبل ان يتجرأ الامام الصدر على الامل، وقبل ان يمسكنا من شعرنا ونحن نتسلل على رؤوس اصابعنا خارج منازلنا وحواكيرنا.
وقبل ان يغسل مع اخيه الكاردينال خريش قلوبنا من الحقد الشهي بين اشخاصنا وقرانا وطوائفنا ومذاهبنا، وقبل ان يصرخ في بريتنا لنكون فدائيي حدود ارضنا المقدسة.
قبـل ذلـك، كـدنا نصدق ان مـا بيـن حدودنا وجلادنا ( جدار طيب )، وكدنا نصدق ان يده تمتد الينا بالدواء، ولم نكن منتبهين الى السم الكامن في انيابه.
قبل ذلك، كان بعضنا يظهر شماتته بالاخر، يستعين على أخيه بالشيطان، كنا نرمي التراب بوجوه بعضنا البعض، ونتقاصف كالعميان.
في ذات يوم من تشرين، قطفنا اول ازهار الحنين من حـاكورة الجنوب، ورمينا حانين كلقيطة على قارعة طريق جلجلتنا.
ثم بدأنا نرمي بجثث قرانا واسمائنا في مقابر جماعية.
وكدنا ان نعتاد على الفرح الذليل، كاد احساس كل منا بالاخر يموت، كاد احساسنا جميعاً بالوطن يموت، اوشكنا ان نعتاد انيابنا ومخالبنا لولا ان رجلاً جاء المدينة يسعى، القى بعصاه على سحرنا وايقظ انفاسنا واستحضر ارواحنا، ولولا ان موسى الصدر صرخ في صمتنا :
ان اسرائيل شر مطلق، وان التعامل معها بأي شكل او صورة حرام، واوصانا ان نكون فدائيين اذا التقينا العدو الاسرائيلي وان نقاتله بسلاحنا مهما كان وضيعاً.
وانتبهنــا..
كان كثير من الصدأ قد تراكم على ذاكرة حانين،
وكادت حانين تتوطن على رصيف المدن وهوامش مشاعات القرى الاخرى، كان " الجدار الطيب " قد استعاد صورة الوحش الطاغي وكشف الابعاد المائية لعدوانه بعنوان " عملية الليطاني "، ثم ما لبث ان بدأ بدفع كرة الثلج حتى تكبر وليكشف الابعاد الاستراتيجية لعدوانه بعنوان " سلامة الجليل.
من مدرسة الزهراء في خلده، من نفس البوابة التي غادرنا منها الامام الصدر الى جهة الضباب العربية، من نفس البوابة خرج فدائيو امل الى الحرب المقدسة عام 1982 وبدأت رحلة العودة الى حانين.
وها نحن في حانين نحتفل بعيد التحرير، فكل عام وحانين ولبنان وغداً فلسطين بالف خير وبعد وبعد،
أخبرني احد الاصدقاء بعد يوم واحد من اطلاقنا للجنة البرلمانية الشعبية لاحياء 14 اذار في العام 1994، لتكون المقاومة المدنية التي تواكب المقاومة المسلحة بفاعليات وانشطة دبلوماسية واعلامية وثقافية لتحريك الرأي العام العالمي في سبيل تطبيق قرار مجلس الامن الدولي رقم 425، ان الناطق الرسمي لها اليوم السيد تيمور غوكسيل قال له : انه لم يعد هناك سوى صديقك ( اي انا ) يصدق حكاية القرار 425.
اذكر ايضاً ان احد الاعلاميين الذي يواصل المواظبة على لقائي كان يأتيني بعد كل مناسبة اتحدث فيها ويحاول استذكار اسماء البلدات والقرى التي كنت وسأبقى احفظها عن ظهر قلب ومنها حانين، وكان يعلق بطريقة مهذبة على احلامي بتحرير تلك الامكنة ويعتبر اني انحو الى الشعر، واني اكتب حانين اشجاراً ومنازل واطفالاً بالحبر وليس في الواقع.
كان لا يصدق سمفونية الدم التي كتبها شاعر من الجنوب يدعى نقولا قربان عام 1955.
كان لا يصدق انه لن تبقى اعشاش بلا شمس، ولا ابواب ما طهرها نهر الدم، ولا رمال او سيول لم تمجدها العاصفة...
كنا وحدنا نصدق ان الشمس ستبزغ من حناجر الاطفال، وان اقدامهم سترقص في اعياد الحقول.
كان لا يصدق ما نصدق ونؤمن، بأن الحروف تشرع جوعها على شهوة الحياة، وان النول البكر يغزل بيارق الموت مع جدائل الحرير، وما مر هذا النول على ذراع الا احالها ضفيرة شمس، او على جرح الا وغدا نور ارجوان، او على فم الا واصبح غابة رخام تبارك الريح جذوعها السوداء.
ثم ها نحن في حانين،
ها هو الصيف يأتي عنقوداً في داليتها وخصلة من خصل شعرها الاسود.
وها هي حانين ترى ذاتها في مرآتها اربع مرات اكبر مما كانت عليه، واربع مرات اجمل مما كانت عليه.
فمـن لا يصـدق فليـأت ولينظر بأم عينيـه ان حانين قامت.. حقاً قامت، وليخبر كل الناس العبرة : ان اي طاغية او جبار.. ان اي نيرون أو هتلر او شارون لا يستطيع الغاء حضور اي شعب او ازالة اثاره.
من بعض دروس التاريخ : ان صور مثلاً تعرضت للدمار الكامل عشرات المرات، وتعرضت للتخريب والتهجير اكثر من مرة بما في ذلك على ايدي الاسرائيليين، وشهدت نكبتين طبيعيتين بفعل زلزالين، وها هي صور عادت لتكون لؤلؤة المتوسط.
وصيدا نفسها تعرضت لنكبات مماثلة، وذات مرة احرقت نفسها ورفضت الاستسلام للغزاة، وها هي صيدا تلتمع كنصل في مرآة القمر، والقدس، ألم تكن عرضة للامتحان ؟ الم تتعرض للغزوات والحملات والتخريب اكثر من مرة، وكانت في كل مرة تتحرك جذوة المقاومة والانتفاضة ويعود اهلها وابناؤها الى طرد المحتلين والتجار منها.
اقرأ بعض هذه الدروس، من هذا المكان الذي حوله العدو الى اثر بعد عين، واعتقد انه سيحطم معنوياتنا ويدفعنا إما الى القبول بالاحتلال او الفرار، ولم يعتقد ان اللبنانيين سيختارون القتال وسيختاورن المقاومة.
اقرأ بعض هذه الدروس من اجل ان يسمعني اخوتي في مخيم جنين، ومن اجل ان يتأكدوا بان احداً لا يستطيع اخفاء الحقائق تحت كومة من الخراب، وان حلم فلسطين سيتجدد كل يوم في كل طفل فلسطيني، وان الارباك الدولي الراهن وتزاحم الموفدين، كل ليجد لدولته موقعاً عبر اقتراح مخارج للواقع الراهن تجافي الحقيقية، وتبتعد قدر الامكان عن حق العودة وحق تقرير المصير، كل ذلك لن يؤدي سوى الى صرف الوقت فيما سيبقى الجمر مشتعلاً تحت رماد مخيمات جنين ونابلس وطولكرم ولن تتأخر المدن الفلسطيية حتى تصاب بالعدوى وتكتشف ان المشكلة لا تكمن بتجاوز عقدة حق العودة والقدس، بل ان الهدف تعميم صفه اللاجئين على كل الفلسطينيين، وان المخطط الاسرائيلي هو اكبر من تكريس الهدوء على امتداد الخط الاخضر في فلسطين او الازرق مع لبنان، وان المشكلة ليست في الخطوط بل في الخيوط التي تحرك الدمى السياسية والعسكرية على مساحة الشرق الاوسط بقصد اضعاف النظام العربي وتفكيكه والهيمنة على المنطقة.
ايها الاعزاء،
في مثل هذا اليوم من العام 1967 كانت اسرائيل تتخذ الاهبة للعدوان وكنا نغرق في مشكلاتنا القطرية والقومية وكانت النتيجة نكبة حزيران.
وفي مثل هذا اليوم من العام 1982 كانت اسرائيل تتخذ الاهبة لاجتياح لبنان تحت ستار عملية سلامة الجليل.
في مثل مساء امس من العام 1982 قتلت ثلاث فتيات وجرحت رابعة في انفجار قنبلة عنقودية اسرائيلية في النبطية الفوقا، وفي مثل هذه اللحظات كان لبنان كل لبنان على منظار التصويب الاسرائيلي.
الان اسرائيل تتخذ الاهبة استعداداً لاستباحة قطاع غزة في كل لحظة واستعداداً للانتقام من لبنان وسوريا في ما بعد، وقد طورت اسرائيل حواسيب اطلاق النار في دبابات ( مركافـه ) و( ام 60 ) من اجل ان تكون اكثر دقة في اصابة المدنيين، مع العلم ان توجيه النيران سيعتمد على طائرات مدنية صغيرة من دون طيار تديرها طواقم مدنية تابعة للصناعات العسكرية.
في الوقت نفسه تستكمل الولايات المتحدة تصريحاتها ضد العراق، فيما الهدف مكان آخر وفي الاغلب حصار ايران، حيث اننا نشعر بأن الادارة الاميركية تستثمر الواقع الدولي والعربي بصفة خاصة لتوجيه الانظار نحو العراق فيما تزيد من ضغط قبضتها على الخليج وايران ونفط بحر قزون وفلسطين والجوار.
اننا على خلفية ذكرى نكبة حزيران واجتياح لبنان نستذكر حرب تشرين المجيدة، كذلك انتصار المقاومة في لبنان ودحر الجيش الاسرائيلي عن ارضنا.
ونقول ان محاولة سوق العالم بالعصا امر ممكن نظرياً ولكنه في الحقيقة اصعب من المنال.
يذكر المتخصصون في التاريخ ان هتلر اعتقد وهو ينظر الى الخريطة، ان الدبابات النازية قادرة على قطع الطريق الى موسكو بسرعة وسهولة، ولم ينتبه الى غمرة اطراء جنرالاته الى ان ( ستالينغراد ) ستعيد ترتيب الواقع العسكري وستؤدي الى دفع الجيش الالماني الى الوراء بحيث لا يستطيع الدفاع عن برلين.
اننا على ثقة تامة بالنفس بأن الفلسطينيين وكذلك سوريا ولبنان سيحققون الصدمة اللازمة للاسرائيليين التي سوف تعيدهم الى الواقع.
ايها الاعزاء،
ثم ها نحن في حانين، في احدى القرى العاملية - الكويتية كما سُجد يارين مع مروحين، الزلوطية، ام التوت، رمشاف، عين عرب ووادي الخنسا التي تفاخر بالانتساب الى مكانها وتغامر بالانتساب الى اليد الكويتية البيضاء التي امتدت لاعمار اربـع بلدات قامت اسرائيل بتدميرها وتخريبها وتجـريفها.
نأتي الى هذا الموقع للاحتفال بإزاحة الستار عن النصب التذكاري المشابه لابراج الكويت الشهيرة، عربون تقدير ووفاء للكويت بشخص اميرها صاحب السمو الشيخ جابر الاحمد الصباح وشخص ولي العهد الشيخ سعد العبدالله الصباح، والحكومة الكويتية ومجلس الامة وشعب الكويت الشقيق ودائماً الصندوق الكــويتي للتنميـة الاقتصـادية بشخـص رئيسه الصـديـق بدر الحميضي الذي تجثم عناء السفر لمشاركتنا فرحتنا بالذكرى الثانية للتحرير، ومشاركتنا فرحتنا الاحتفال بيوم الاخوة اللبنانية - الكويتية، دون ان انسى توجيه الشكر الى الاخ بسام العثمان مندوب الصندوق في لبنان الذي كان له لمسة انسانية في كل موقف.
ان الدعم الكويتي لا يقف عند هذه الحدود بل يتجاوز ذلك الى العمـل لتفسير حلـم كبير المهندسين العـرب الشهيـد ابراهيم عبد العال وكل مخلص للبنان بمشروع الليطاني، حيث انطلقت آلية العمل لتنفيذ القسم الاول من المشروع.
كما ان الدعم الكويتي لا يتوقف عند حدود الجنوب، بل انه طال كل المناطق والمواقع اللبنانية الاشد حاجة عبر مشروعات صحية وتربوية ومختلفة، وهذا امر ليس غريباً على الكويت التي عانت ولاتزال من ظلم ذوي القربى والتي تعرضت الى ما يشبه الكارثة جراء استهداف مؤسساتها ومنشآتها وعمرانها واسواقها، واولاً وقبل كل شيء انسانها، وكان من المتوقع ان تستجيب لنداء لبنان وعلى وجه الخصوص لنداء الجنوب، وفي مرات ومرات كان ولازال يكفي ان نشير الى مكامن الوجع حتى نجد مبادرة كويتية، واذكر انه خلال زيارتي الاخيرة الى الكويت الشقيقة انني ولدى لقائي كل المسؤولين وعلى رأسهم امير البلاد كانوا جميعاً يسبقونني في المبادرة للحديث عن الليطاني.
انني اليوم اود ان استغل هذا الكرم من موقع التأكيد ان دعم صمود الجنوب هو دعم لاحد اهم خطوط الدفاع عن امتنا ودورها وحضورها، وانا اناشد الاخوة في الكويت عبر الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية مد يد المساعدة لتجهيز مستشفى بنت جبيل الذي سنفتتحه اليوم، نظراً لأن هذا المستشفى اذا ما انطلق في مهمته فبأمكانه ان يغطي جزءاً مهماً من المنطقة الحدودية، واني في الوقت نفسه اتمنى على الكويت الشقيقة الالتفات الى مستشفى قانا لتحويله الى مستشفى خاص بأمراض القلب.
ايها الاعزاء،
اننا حين نعبر عن شكرنا وامتناننا للكويت، فإننا لن ننسى اليد السورية البيضاء التي امتدت الى لبنان في اوقات المحن والشدة ولاتزال، ولا ننسى بالاضافة الى دعمها للبنان في مقاومته للاحتلال توصلاً لتحرير ارضه دعمها المتواصل لترسيخ الثقة بالدولة ومؤسساتها، وكذلك مشروعاتها الانسانية والثقافية والرياضية وعشرات الاف الاغراس التي قدمت للبنان وسوى ذلك كما لن ننسى دعم دولة الامارات العربية المتحدة خصوصاً في تمويل عمليات نزع الالغام الاسرائيلية من ارضنا، وهي حقول موت تربصت بالكثيرين من ابنائنا ووسائط نقلهم ومواشيهم ومنعت استغلال مساحات واسعة من ارضنا.
اخيراً، ومن حانين لا يفوتني تقديم الشكر الى جمعية الشبان المسيحية التـي كان لها اسهامات متعددة في قيام هذه البلدة، وكذلك لمشروعاتها المتعددة ومنها المشروع السياحي والبيئي لمغارة الريحان في ميس الجبل، بنت جبيل، معركة والنبطية الفوقا، والمزرعة الانموذجية لانتاج الفطر في يارين ومصنع دبس الخروب والمربيات في عين ابل.
كما لا يفوتني ان اسجل لمجلس الجنوب هذه المهمة المدهشة في انتاج المشاريع والتي تثير التساؤل حول تلكؤ بقية ادارات ومؤسسات الدولة.
ايها الاعزاء،
ازاء الوقائع العربية والشرق اوسطية على وجه الخصوص لا يسعني سوى التذكير بأن حجم الاموال العربية المستثمرة في الخارج يبلغ ثمانماية مليار دولار.
ان هذه الاموال لو وضعت كما المساعدة الكويتية على انتاج مشروعات كمشروع الليطاني ودعم مقومات النظام العربي لما استطاع احد ان يفكر ولو لحظة واحدة بزعزعة هذا النظام .
يبقى انني لازلت عند التزامي تجاه حانين، ان اؤسس فيها مركزاً لبلديتها، وقاعة متعددة الاستعمالات ومستوصفاً، والذي اجل اطلاق المشروع هو تحديد المكان المناسب له وقد وفقنااليه.
اختم كلمتي كما خلال لقائي السابق بكـم في آب من العـام 2000 بأن لنا موعداً كل عام في حانين لتدشين مشروعات جديدة من اجل حانين جديدة هي خفقة قلب لبنان.
عشتــــم
عاشت حانين
عاشت الكويت
عاش لبنان