عادت الحياة الى بلدة حانين (قضاء بنت جبيل) بعد 25 عاما من التهجير، هذه البلدة التي صنفت بعد التحرير بلدة منكوبة اخرى بعد سجد، بسبب الدمار والخراب اللذين حلاّ بها خلال الاحداث وابان الاحتلال الاسرائيلي. ما ان تطل على هذه البلدة حتى تشاهد ورش بناء هنا وهناك، على جانبي الطريق الرئيسية وعلى تلالها ومدخليها لجهة بلدتي دبل وعين ابل
غير ان المشكلة الحقيقية التي لا تزال تواجهها البلدة هي أزمة المياه. فالبلدة في حاجة الى جر المياه اليها وراجعنا المسؤولين وتبين لنا ان المهندسين سيجرون لنا لمياه من كفرا مرورا ببلدة دبل الى حانين. وهذا المشروع لا يزال متأخرا ولا نعرف متى ستصلنا المياه. حاليا نؤمن حاجاتنا اليومية عبر شراء صهاريج مياه تستقدم مياهها من بركة دبل بعد إذن من قائمقام بنت جبيل بالتوافق مع بلدية دبل، ونستعملها للبناء فقط، وتؤمن لنا مؤسسة جهاد البناء يوميا مياه الشرب والاستعمال اليومي. طلب منا اجراء مسح للطرق والاراضي في البلدة. وقد أنجزنا ذلك على نفقتنا الخاصة ومنها مسح لبناء مدرسة وملعب. وقد وعدنا مجلس الجنوب بالتنفيذ فور اعداد الملفات".
سكان البلدة معظمهم من المسنين يشرفون على العمل في ورشهم. اما العائلات فلا يزال افرادها خارج البلدة لان الاولاد يتابعون الدراسة في قرى جنوبية فضلا عن ارتباط اربابها بوظائفهم. ورغم الحركة القائمة فيها، فهي تفتقر الى أدنى مقومات العيش بسبب انعدام البنى التحتية وأهمها انشاء مدرسة ولو موقتا، ومستوصفا، اضافة الى عنصر المياه الاساسي. وهي تحتاج ايضا الى تقوية خط الكهرباء وشق طرق داخلية بسبب امتداد البناء فيها، وحفر بئر ارتوازية لتأمين المياه ايام الجفاف.
المواطنون طالبوا الدولة عبر "النهار" باعادة حصة التبغ الى كل مزارع في البلدة ومنحه رخصة اربعة دونمات اسوة بغيرهم من المزارعين لزراعتها والاستفادة منها، كمصدر رئيسي في دعم العودة
لطعم الانتصار عند أهالي "حانين" مذاق خاص، مجبول ببهار الصمود المجفف، وملح الحصار الخشن، وطحين التهجير الأسمر، المغمس بزيت الدم القاني الساخن.
بعد ساعات من التحرير شاهدتهم يجلسون على صخور البلدة.. ما رأيته في عيونهم لم يكن الدمع وما لمحته على شفاههم لم يكن الفرح... الصمت ديكتاتور الصوت، التأمل سيد اللحظة، الذكريات حلقت كغيوم كثيفة فوق رأس القرية...
لفهم المشهد ثمة الكثير من الصور والمراحل، سنحاول اختلاسها من جعبة التاريخ، أما الطعم فهو سرّ لن يذوقه أحد غير أبناء حانين أنفسهم.
وعي مبكر
إن تاريخ حانين النضالي يبدأ مع التاريخ النضالي لجبل عامل، ويظل محافظاً على هذا الانسجام من حيث مشاركة البلدة في التيارات الوطنية التي عمّت عشية الاستقلال، ومن حيث إسهام حانين مع قرى وبلدات جنوبية اخرى في تمويل الثورة الفلسطينية قبل سقوط فلسطين والانخراط في صفوف المجاهدين.
وتابعت حانين نضالها المبدئي، فكانت ملاذاً للفدائيين ووسادة لنومهم وتنوراً لخبزهم..
وعلى تراب حانين كان مسؤول المجموعة يرسم بغصن صغير خطوط العملية التالية..
على خط موازٍ كانت حانين تخوض حرباً على الاقطاع السياسي، لم تبدأ مع إعلان "البيك" بناء قصره على أرضها، ولم تنته مع امتناع معظم الاهالي عن انتخاب لائحته، مع ما نتج عن هذه الخطوة من احترام "لحرية التعبير"!
فقد دُهمت القرية ليلاً وخُلعت أبواب منازلها وسُحب نساؤها وعجزتها الى السجن... اعتقد الجميع أن قريتهم الواقعة على الحدود تتعرض لاعتداء صهيوني، ولكنهم اكتشفوا انهم يتعرضون لاعتداء من عناصر رسمية لبنانية كانت ذراعاً من أذرع الاقطاع حينها.
تراجيديا الحصار
في ظل اختمار أبجدية المقاومة ونضج الوعي السياسي والممارسة التطبيقية كانت حانين "بؤرة" خطر ورمز لا بد من إخماده. فبدأ المخطط مع حصار طويل دام أكثر من 40 يوماً، ثم كان الانقضاض على القرية في 16 ـ 10 ـ 1976 وكان يوم جمعة. برغم قلة السلاح وانعدام الامدادات قاوم رجال القرية ببسالة، فكان الموت ظلاً لكل منهم. أما عتاد القتلة وعديدهم فكان استثنائياً، جُمع من أكثر من جهة وحشد من أكثر من مكان، بعد أن انجزوا جريمتهم في النبعة، والكرنتينا وتل الزعتر وصلحة وحولا...
في 16 ـ 10 ـ 1976 دخل القتلة القرية، أحرقوا منازلها، دمروها، قتلوا، اغتصبوا، شردوا، سرقوا... وكان التهجير عبر الحقول باتجاه الشمال حيث بلدة الطيري، القذائف الفسفورية تضيء السماء والرصاص يفلح التراب والعيون تلتفت الى الخلف حيث القلق والرعب على من بقي في القرية.
بعد مرور العتمة وانزياح الدخان وتبدد رائحة البارود، أطلّت رائحة الدم، وتكشّف المشهد على مجزرة من ثمانية شهداء: علي محمد شهاب، محمد حسن قشاقش، أحمد الحاج حسين صوفان، احمد الشامي، مريم عباس، هلا سويدان، حسن شبيب شهاب، ومحمود أسعد قشاقش.
بعد هذا المشهد أسدلت الستارة على القرية التي غادرها كل سكانها، هذا الى عيتا وذاك الى البازورية أو برجا أو الحوش أو بيروت.
وكان فصل جديد من المعاناة والذل والبحث عن لقمة العيش دون أن تغيب المقاومة عن البرنامج اليومي، فدخل الكثير من أبناء القرية صفوفها، وحاربوا تحت رايتها واستشهد نخبتهم :اكرم منصور، ياسين شهاب، علي شهاب، عبدالله صوفان، باسم قشاقش، علي عباس، عزت سويدان.
السيرة.
التحرير
فعلاً لطعم التحرير عند أبناء حانين مذاق آخر.