بمناسبة بدء شهر رمضان وجّه سماحة الإمام السيد موسى الصدر هذه الرسالة إلى اللبنانيين من التلفزيون ونشرتها الصحف صباح اليوم التالي
ـ الــنـــص ـ
أيها اللبنانيون..
في ليلنا الكئيب الرهيب الذي لبث طويلاً وتجاوز كل حد، يطلع فجر أمل جديد، يكشف الطريق ويكتب على جبين الأفق أبعاد المحنة وسبل الخلاص، وتفاصيل الوسائل.
ها قد أقبل علينا شهر الله، رمضان المبارك، حاملاً معه فرص التأمل والرؤيا الواضحة وطرق الانتصار للإرادة الخيرة ولتقرير المصير، ويتقدم بذكرياته المشرقات شواهد وتجارب من التاريخ القريب والبعيد.
وفي هذه السنة تقترن بداية رمضان بذكرى عظيمة مؤثرة في حياتنا هي عيد انتقال العذراء مريم (ع) سيدة النساء، تقترن البداية حتى يضاعف الشهر هداياه الى الوطن المعذب بتقديم مقارنة سماوية تعكس اقتراناً وطنياً على الأرض.
ولكم كان الوطن بحاجة الى رمضان ليكون محطة في طريق المستقبل، ومنعطفاً يطوي صفحات الماضي القريب وذيولها ليضعها في عالم التجارب والعبر.
فالمواطن يتطلع الى الآفاق ويراها مغطاة بالضباب المكثف الذي يحول دون رؤية المستقبل السعيد وإشراقته. وينتقل المواطن الى الأنفس ويشعر بالجروح الدامية، ويتذكر المفاجآت الفاجعة.
ثم يعود الى ما حوله ليرى في مجتمعه ركوداً وهولاً وآلاماً من شدة وقع التآمر الذي عصف به.
ويشاهد المواطن أن محاولات مضنية تجري من قبَل قادته المخلصين، وأن الليل والنهار يتواصلان في مكاتبهم، ثم يرى أن الشاعر العربي عبر عن هذا الوضع إذ قال: "فكيف بيانٍ خلفه ألف هادم".
وهكذا يمضي المواطن أيامه بين الآلام والمصائب، وبين الحيرة والقلق، يراوح في مكانه، وتذوب آماله وتبيض عيناه من التطلع والانتظار...
ثم يقبل شهر رمضان يضمه بحنانه، ويخصّه بكرامة الله ويضعه أمام فرصة كبرى جديدة من نفحات الدهر عليه أن يغتنمها ويتعرض لها.
أيها الاخوة المواطنون..
حرب سياسية عشناها عشرات السنوات وحرب عسكرية سيطرت على بلدنا مدة سنتين أو اكثر، وحرب إعلامية لا تزال مستمرة...
وفي محاسبة النتائج نجد أيادينا فارغة إلاّ من الآلام والخسائر وإلا من تلمس حقيقة واحدة وهي استحالة الانتصار. وأن العالم القريب والغريب، لا يسمح بتغيير المعادلات.
وعندما نشاهد تجارب وقف إطلاق النار عشرات المرات، وتجارب نقل المعارك من مكان الى مكان، ومن زمان الى زمان، وتجارب عض الأصابع، عندما نشاهد هذه وغيرها من التجارب لا نجد أن النتيجة كانت أفضل...
وها نحن قضينا حوالـي السنة، والحرب انتقلت من هذه المناطق، وكان المطلوب في كل لحظة أن نبدأ بالبناء ولا نزال نبحث في الحوار وفي الوفاق، وفي المصالحة، وفي اللقاءات، وفي الجبهة العريضة وفي.... ولا نزال نحس بالآلام والمصائب ونشعر بالقلق والحيرة.
ونعود الى القواسم المشتركة والمعادلات السابقة، وندرسها بالرؤى الثابتة ونضيف إليها أسوأ ما أفرزته الحرب وهو تراكم آثار الحرب السياسية والعسكرية والإعلامية على الأفكار وعلى الرجال والمواقف، وبخاصة على الجسور والأوتاد التي كانت تمسك أطراف الوطن، والتي كانت رموز الوحدة في محيط الكثرة.
وفي هذا الخضم ننتقل الى شهر رمضان، شهر الوحي الإلهي، والصيام والابتهال، شهر الذكريات المجيدة في بدر وحنين وفتح مكة والدخول في القدس، شهر القدر وبناء المصير، شهر المعاناة المشتركة والمؤاساة المباشرة. فشهر رمضان هو شهر الفرص، ومع كل فرصة يمكننا علاج مشكلة وتضميد جرح.
فمع الصيام، وما يستتبع الصيام من انفتاح في القلب والعقل، نعيد النظر في الأحداث والأشخاص والمواقف فنحظى برؤية واضحة لتقييم الماضي، ولتخطيط المستقبل. المستقبل الذي لا يمكننا الفرار من مواجهته، ولا تأجيل البحث فيه، ولا إهماله والتساهل في أمره.
ومع استعراض الذكريات تعود الثقة الى النفوس والى السعي، وتلمس معاني الآية الكريمة.. {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ . وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال:59ـ60).
سيما وأن الصيام يهيئ الأسباب، فيعلمنا الصبر والجلد، ويعمق الشعور بالمسؤولية الجماعية وتحسس آلام الاخوة، أولئك الذين أبعدوا من ديارهم بغير حق، والذين لا يزالون يحترقون، رغم نهاية الحرب، بنار الجوع والمرض والتشرد والسلاح...
ومع حلول القدر ندرك أن مصير المستقبل رهن إرادتنا، وأن ما نعانيه مهما كان قاسياً فإنه قابل للتغيير إذا أردنا..
ويدعم هذا الإدراك معاني انتقال العذراء، حيث أن اللانهاية في الكمال وفي الطموح تصبح ممكنة بالجهود والتفاني والإخلاص.
أيها اللبنانيون..
لن يحصل الخلاص إذا لم تبادروا بالسعي نحو الخلاص.
ولن تعثروا على وطنكم إذا لم ترتفعوا فوق جراحكم ومصالحكم ووجهات نظركم.
لا الشقيق ولا الصديق يمكنه أن ينوب عنكم فيمارس عملية الإنقاذ. بل إنه المساعد والملبي إذا أردتم وإذا طلبتم. وحتى الله ينصركم عندما تنصرونه.
وها فرصة الشهر العظيم، وقد تعاظمت إرادة الخير، وتوفّرت شروط الخلاص، وتزود الكثير منكم بعقول منفتحة وقلوب صابرة متحسسة، ومعكم الله سبحانه.
هبوا للإنقاذ.
للالتفاف حول القيادة المسؤولة الشرعية.
للتسامي واللقاء.
لتجاوز العقبات.
للنظر في الماضي والمستقبل برؤية مخلصة وجديدة
ولبناء الوطن من جديد.