الاضطرابات النفسية تضعف الجسم
مع تقدم العلم وتطور الحضارة وغزارة مباهج الحياة ومغرياتها، واستغراق
الإنسان بالتمتع بكل ما تصل إليه يداه وتصبو إليه نفسه، غير إن هذا لم
يحول دون وجود المرض النفسي والعقلي ولم يحم الإنسان من المعاناة، بل بقي
غارقا في التفكير في مأساته الدنيوية، وان الكثير من الدراسات الوبائية
الحديثة دلت على انتشار المرض النفسي بين كل الشعوب ولا فرق في ذلك بين
البلاد النامية أو الصناعية ولكنها قد تختلف في تظاهراتها المرضية.
لقد أصبحت الأمراض النفسية واسعة الانتشار في حياتنا المعاصرة حتى أصبح
زماننا هذا يسمى بعصر القلق، وهذا ليس بغريب في ضغوط حياتنا وسرعة
إيقاعاتها والأزمات النفسية التي نعيش تحت وطأتها، فظهرت مجموعة من
الأمراض الجسدية الغير قابله للتفسير من الناحية العضوية رغم تطور وسائل
التشخيص الحديثة.
وبدأت الأنظار تلتفت إلى الأسباب والعوامل النفسية التي تلعب دورا في
أحداثها أو تفعيلها أو إطالة أمدها، خاصة إن هناك علاقة وثيقة بين النفس
والجسد، تلك العلاقة المتبادلة والمتكافئة ضمن قوانين تظهر العضوية في
النهاية بالشكل الإنساني الأمثل، فكما إن النفس تؤثر سلبا أو إيجابا على
الجسد فكذلك الجسد يؤثر سابا أو إيجابا على النفس.
الجسدية النفسية
برز الاهتمام بالمنهج السايكوسوماتي(النفس-جسدي) في الطب وبدأ الحديث عن
الاضطرابات النفس جسدية وعني بها تلك المجموعة من الأمراض الجسدية التي
يلعب العامل النفسي دورا أساسيا في أحداثها، وقد بينت الأبحاث العلمية أن
الانفعالات العاطفية تزيد من شدة هذه الأمراض الجسدية أو تجعل نوبها طويلة
أو تطيل أمدها.
في حياتنا اليومية انفعالات كثيرة وبدرجات مختلفة نعيشها مرافقة وملائمة
لظروف ومواقف محددة، نتغلب عليها تارة وتزول تارة أخرى بزوال الموقف
المؤدي لها، هذه العملية من التوافق والتكيف تدل على ملاءمتنا وتوازننا
وتثري حياتنا، غير إن الانفعالات الشديدة أو المزمنة تخل بذلك التوازن
واستمرارها يؤدي في النهاية إلى الاضطراب النفس-جسدي، فكما أن للانفعالات
دورا في أحداث تلك الاضطرابات فكذلك للأسلوب الذي يستجيب به الفرد ونوع
شخصيته دور أيضا.
كبت الانفعالات
إن كبت انفعالات الخوف والقلق والغضب..وغيرها بداخل النفس يؤدي إلى حدوث
شكاوى لأعضاء معينة من الجسد، فقد يشتكي عضو معين دون الأخر وذلك لأسباب
عديدة فقد يكون ضعف خلقي في هذا العضو أو خبرات قديمة مر بها الفرد حيث
خبر أحد أقاربه أو أصدقائه بشكوى مماثلة كما إن لطبيعة الدور الانفعالي
والمعنى الرمزي لهذا العضو لديه والمكاسب الثانوية التي يجنيها ذلك الفرد
من شكواه كلها تلعب دورا في إكمال الصورة المرضية وإعطائها شكلها
النهائي.تتضح هذه الأمور وغيرها للطبيب النفسي عند دراسته لشكوى المريض
وإجرائه دراسة مستفيضة للتاريخ المرضي للحالة.
إن الاضطرابات النفس –جسديه شائعة، فهناك دراسات تشير إلى أن حوالي
40-60%من المرضى الذين يترددون على الأطباء يعانون منها، وتعتبر تلك
الاضطرابات وراء كثير من حالات تغيب الموظفين عن العمل، ومراجعات العاملين
في المجال العسكري للعيادات الطبية.ومن أمثلة تلك الاضطرابات نذكر قرحة
المعدة،وقرحة القولون،والتهاب المعدة المزمن،ومن المعروف إن السبب المباشر
للقرحة المعدية هو الإفراز الزائد لحموضة المعدة وما يسببه ذلك من تهيج
وتأكل جدار المعدة، إلا أن الإفراز الحمضي الزائد لمعده بحد ذاته يمكن أن
ينجم عن الضغوط المزمنة وحالة التوتر الانفعالي المستمر.
ومن الحالات الأخرى نذكر ارتفاع ضغط الدم الأساسي أي الذي لا يمكن تفسيره
على أساس عضوي،فمعروف إن الانفعال والتوتر يحرض إفراز بعض المواد مثل
الأدرينالين التي تؤدي بدورها إلى ارتفاع ضغط الدم،وهناك ما يسمى في الطب
النفسي بعصاب القلق والذي يتميز بأعراض نفسيه المنشأ مثل الخفقان وقصر في
التنفس وألم في الصدر،وهنا لا بد من استبعاد الأسباب العضوية بدراية وحكمه
.
وقد تتصاحب تلك الحال مع وجود وفاة فجائية أو حدوث مرض قلبي لأحد معارف
المريض وأحيانا اهتمام الطبيب الزائد لنفي أو تأكيد إصابة المريض بمرض
قلبي وعادة يكون هؤلاء الأشخاص شديدي التفكير بأجسادهم ويبالغون في تقدير
أي عرض بسيط يحدث لديهم،فهم يخافون الموت ويسعون للحصول على مكاسب ثانوية.
الربو
أشارت أبحاث علمية كثيرة إلى دور العوامل النفسية في إثارة نوبة الربو
وكذلك الأمر بالنسبة لحمى الربيع والنزلات الشعبية. وفي دراسة لشخصية
الأطفال المصابين بالربو تبين أنهم مرتبطون ارتباطا وثيقا بالأم ولا
يريدون فك أو تطوير هذا الارتباط بل على العكس يسعون دائما لتعميقه فهم
يخافون الانفصال عن الام وقد ذهب البعض إلى اعتبار النوبة الربوية على
أنها نداء استغاثة واستعطاف للام.
اضطرابات جلدية
وكذلك الأمر بالنسبة للأمراض الجلدية،فكون الجلد يشكل الغطاء الخارجي
للجسم وهو عضو الحس الذي يستجيب للمؤثرات الخارجية فالجلد مرآة للنفس
الداخلية،يحمر في حالة الخجل والحرج،يشحب في حالة الخوف،كما أن الشعر يقف
في حالة الرعب. وان الكثير من حالات الثعلبة والحكة يكون للعوامل النفسية
نصيبا هاما في أحداثها.
كما إن ثقل المسؤوليات وحالة التوتر المستمرة وشعور الاستياء قد يؤدي
لحدوث آلام وتشنج عضلي وأوجاع أسفل الظهر وحتى التهاب المفاصل، وليست
بالقليلة تلك الحالات في العيادات الطبية العسكرية.
ولا نغفل هنا عن ذكر عدم انتظام الدورة الشهرية والأعراض المرافقة له عند
السيدات من آلام شديدة وتوتر حاد وكذلك الاستجابات العنيفة المصاحبة لسن
اليأس وما قد تخفيه ورائها من شعور بعدم الاطمئنان ودأب السيدات الدائم
لتحقيق ذواتهن ن كزوجات وأمهات.
وان تحدثنا عن البدانة وهي من أمراض العصر التي يعاني منها الكثير من
البشر فلا يفوتنا ذكر ما قد يكمن ورائها من عوامل نفسيه، فقد يلجأ الفرد
أحيانا غلى الطعام كبديل عن فقدانه لمشاعر الحب والأمن وعلى العكس أحيانا
فقد يسبب الاضطراب الانفعالي فقدان الشهية عند الأطفال وتشير تلك الحال
أحيانا غلى عدوان خفي تجاه الوالدين.
وأحيانا أخرى عقاب للذات تالي لمشاعر الذنب. وان الكثير من حالات الإسهال
المزمن أو للامساك والتبول اللاإرادي عند الأطفال لها مدلولات نفسية هامة،
وبالرغم من تناقض الآراء حول تلك المسائل ألا أنه هناك شبه اتفاق على وجود
ضغوط انفعاليه حادة ومشاعر قلق وذنب واستياء.
ضعف المناعة
العوامل النفسية تؤثر في كثير من أجهزة البدن، وهو أمر لا يستهان به لدرجة
أن بعض الأبحاث الحديث تفيد بوجود ترابط بين السرطان والعوامل النفسية،
كما أنه قد ثبت ترابط أجهزة المناعة بالحال المزاجية للفرد، وان اهتمامنا
كأطباء بالعوامل الاجتماعية التي تحيط بالمريض وللحالة النفسية له تساعدنا
بكشف حقيقة ومسببات الحالة المرضية التي يشكو منها، وقد تكون مفتاح الشفاء.
دمتن بصحة نفسية عالية