القرآن هنا لم يصرّح [بالواقعة واسم صاحبها] خشية التمرّد المشار إليه آنفا، ذلك أن التمرد في مواجهة التصريح لو وقع، سينظر إليه من قبل الصديق والعدوّ، على أنه تمرد ضدّ القرآن، وهو في الوقت نفسه استخدم الكناية وعبر عن المراد بصيغة يفهم من خلالها إي إنسان لا يشوبه الغرض أن وراء الآية أمرا يشير إلى قضية بعينها.
فقوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} لا يعبر عن وضع عادي، وإنما يُشير إلى واقعة استثنائية حدثت. والسؤال عندئذ: ما هي هذه الواقعة؟ نجد في هذا المجال أن كلمة الشيعة والسنة اجتمعت على أن الآية نزلت بشأن علي بن أبي طالب (نقرأ في الدر المنثور في ظلال الآية الكريمة: "أخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه عن عمار بن ياسر، قال " وقف بعلي سائل وهو راكع في صلاة تطوع، فنزع خاتمه بأعطاه السائل، فأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه الآية: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون). فقرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أصحابه ثم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعاد من عاده". (ينظر: الدر المنثور، السيوطي، ج2، ص 293).
الإمامة عند الشيعة مفهوم يناظر النبوّة
آية في القرآن عجيبة تقع في سياق مجموعة هذه الآيات عن الإمامة وهذه الآية ترتبط بشخص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، بل هي تتصل بمسألة الإمامة نفسها، وفي نطاق المعنى الذي عرضناه ونعود للإشارة إليه مجددا.
ذكرنا - فيما سبق - أنه خطأ كبير، ذلك الذي وقع به المتكلمون المسلمون منذ القديم، وهم يطرحون الإمامة في صيغة السؤال التالي: ما هي شرائط الإمامة؟ فهذه الصيغة في الطرح تستبطن فرضية فحواها أن أهل السنة يقبلون الإمامة كما نقبلها نحن الشيعة، وغاية ما هنالك أننا نختلف معهم في شرائطها، إذ نقول نحن بالعصمة والنص شرطين في الإمام، ولا يعتقد الطرف الثاني بهما.
وواقع الحال أن الإمامة التي نعتقد بها نحن الشيعة لا يعتقد بها السنة أساسا، وما يعتقد به أهل السنة باسم الإمامة هو تعبير عن الشأن الدنيوي في الإمامة، الذي يُعدّ أحد شؤونها.
مثال ذلك: هو ما نلتقي به في مضمار النبوة، فأحد شؤون النبي أنه كان حاكما للمسلمين، بيدَ أن ذلك لا يعني أن تكون النبوة مساوية للحكم والحكومة، النبوة بحدّ ذاتها حقيقة تنطوي على آلاف القضايا، ولكن من شؤون النبي - كما أسلفنا- أنه بوجوده لا يحتاج المسلمون إلى حاكم آخر، لأنه هو الحاكم.
ما يذهب إليه أهل السنّة أن الإمامة تعني الحكومة (الإمامة تساوي الحكومة) وأن الإمام يعني الحاكم الذي يوجد بين المسلمين، وهو من الحيثية شخصٌ من المسلمين يجب عليهم انتخابه لممارسة الحكم.
وبهذه الصيغة لم يتعدَّ أهل السنّة في الإمامة أكثر من حدّ الحكومة.
أمّا الإمامة عند الشيعة فهي تأتي تالي تلو النبوّة، فأُولو العزم من الأنبياء هم الذين جمعوا الإمامة إلى النبوة، وكثير من الأنبياء لم يكونوا أئمة، أما أولو العزم فقد بلغوا رتبة الإمامة في آخر المطاف.
ومحل الشاهد في الكلام: أننا لا نسأل عن الحاكم من يكون في حال وجود النبي، ذلك أن للنبي جنبة فوق بشرية (في صلته بالسماء وانفتاح الغيب عليه) وكذلك لا معنى للسؤال عن شخص آخر يتولى زمام الحكم بوجود الإمام. إنما يمتلك الحديث عن هذا الشخص - مبرراته الموضوعية - في حال عدم وجود الإمام ( وذلك بافتراض عدم وجوده مطلقا، أو لغيابه كما هو الحال في زماننا).
ما يجب أن نحذر منه هو خلط مسألة الإمامة بمسألة الحكومة، ثم أن نتساءل على أساس ذلك الخلط: ما هو موقف أهل السنة، وما هو موقفنا؟ فالإمامة مسألة أخرى غير الحكم، وهي عند الشيعة ظاهرة ومفهوم يناظر النبوة في أعلى درجاتها.
نخلص مما مرّ في الفارق بين الشيعة والسنة، إلى أننا نعتقد بالإمامة، والسنة لا يقولون بها من الأساس، وليس الأمر أنهم يعتقدون بها ويختلفون معنا في شروط الإمام، بأن يضعوا له شروطا غير التي نعتقد بها.
الإمامة في ذريّة إبراهيم
الآية التي نريد بحثها، تتصل بمفهوم الإمامة بالمعنى الذي يعتقد به الشيعة. إن ما يذهب إليه الشيعة في هذه الآية أنها تفيد وجود حقيقة أخرى باسم الإمامة، وهذه الحقيقة لم ينحصر وجودها بعد رحيل نبي الإسلام، بل هي تعود إلى زمن ظهور الأنبياء، وهي باقية في ذرية إبراهيم ماكثة فيهم إلى يوم القيامة.
والآية التي نعنيها قوله تعالى في سورة البقرة {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(البقرة/124).
إبراهيم مبتلىً
لقد تحدث القرآن عن الابتلاءات التي نزلت بإبراهيم، وأشار لثباته في مواجهة نمرود والخط النمرودي، وكيف أنه أبدى استعداده كي يحرق بالنار في الثبات على المواجهة، ثم أشار إلى بقية ما وقع له.
من ذلك، الأمر المدهش الذي نزل به، والذي لا طاقة لأحدٍ به، إلا الإنسان الذي يسلّم لأمر الله تماما ويعبده مطلقا.
لقد رزق (عليه السلام) وهو في شيخوخته - من زوجته (هاجر) التي كانت عجوزا في السبعين أو الثمانين- ولد كان هو الأول جاء بعد انقطاع الذرية. وفي هذه اللحظة يأتيه الأمر أن يغادر الشام وسورية ويذهب تلقاء الحجاز، حيث عليه أن يترك زوجته ووليده وحيدين هناك، ويغادرهما.لم يكن هذا الأمر يتسق مع أي منطق سوى منطق التسليم المطلق فقد كان ذلك أمر الله (كان يحس ذلك عن طريق الوحي) فهو إذن مُطاع. يقول تعالى - فيما حكاه عن إبراهيم (عليه السلام): {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}(إبراهيم37).
كان إبراهيم يعرف عن طريق الوحي الإلهي مآل الأمر ونهايته، ولكنه خرج من هذا الاختبار على أحسن ما يكون.
ذبح الابن
المسألة الثانية التي جاءت أمضى من الأولى، هي الأمر بذبح ولده. فقد جاء الأمر أن يذبح ولده بيده في منطقة منى، التي نحظى فيها الآن بإحياء ذكرى ذلك التسليم المطلق الذي أبداه إبراهيم، بتقديمنا للأضاحي والقرابين.
بعد أن تكرّر عليه الأمر في عالم الرؤيا مرتين وثلاث، أمسى على يقين أنه إزاء الوحي الإلهي، لذلك فاتح ولده بالقضية، فما كان من الابن إلا أن قال بتسليم ودون نقاش {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ}(الصافات102).
يأتي القرآن ليجسد اللوحة على نحو مدهش عجيب، وهو يقول: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}(الصافات103). أي حينما أمضيا الأمر، بحيث لم يشك إبراهيم أنه فاعلٌ وأنه ذابح ولده لا محال، وأيقن إسماعيل أنه مذبوح.. لما فعلا ذلك بمنتهى الاطمئنان واليقين جاءهما النداء: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَد صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}(الصافات104-105).
والمعنى أن هدفنا لم يكن ذبح إسماعيل وفصل رأسه عن جسده، ولم يصدر القرآن بأمر ينهى فيه إبراهيم عن الذبح، بل قال (قد صدقت الرؤيا). أي: بتنفيذك عمليا ما هو مطلوب انتهى المشهد، لأن الهدف لم يكن - كما ذكرنا - ذبح إسماعيل، بل ظهور الإسلام والتسليم منك أنت الأب ومن ولدك. وهذا ما كان.
النص القرآني واضح في أن إبراهيم (عليه السلام) وُهِبَ الذرية على كبر، فهذه زوجه عندما جاءت الملائكة تبشره بالغلام، تقول: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا}. ردت الملائكة {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} (هود: 72-73).
لقد جاءت الذرية إبراهيم إذن وهو شيخ، وعندما جاءته الذرية كان نبيا، ولما كانت الآيات التي جاءت في القرآن عن إبراهيم (عليه السلام) كثيرة، فالمستفاد منها، أنه وُهب الذرية وهو على كبر سن في السبعين أو الثمانين، بعد أن كان نبيا.
ثم بقي حيّاً بعد ذلك عقدا من السنين أو عقدين حتى كبر إسحاق وإسماعيل، وقد بلغ إسماعيل من العمر مبلغاً شارك أباه إبراهيم(عليه السلام) في بناء الكعبة.
يشير قوله تعالى: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(البقرة/124). إلى أن الإمامة وهبت لإبراهيم بعد أن أتم ما نزل به من ابتلاءات. والسؤال: متى كان ذلك، وبأي زمان تتصل الآية؟ هل هي محددة بأوائل عمر إبراهيم؟ الشيء المؤكد أنها لا شأن لها بفترة ما قبل النبوة من حياة إبراهيم، لأنها تتحدث عن الوحي، وهو شأن من شؤون النبوة.
هي إذن تتصل بمرحلة النبوة، ولكن هل كان ذلك أوائل عهد إبراهيم بالنبوة؟ كلا، بل هي ترتبط بأواخر عهد النبوة، بدليلين، الأول: أنها تتحدث صراحة عن أن ذلك حصل بعد الابتلاءات. وما أبتلى به إبراهيم حصل جميعه في عهد نبوته، وقد نزل به أهمها وهو في أواخر عمره. الثاني: تذكر الآية في سياقها الذرية في قوله:
(ومن ذريتي) أي كان له حين الآية ذرية [والذرية جاءته آخر عمره وهو شيخ بنص القرآن].
الآية تقول لإبراهيم: إنا نريد أن نهبك آخر عمرك شأنا آخر، ومنصبا مستقلا [غير النبوة، لأنه كان نبيا] يعبر عنه قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا). الشيء الواضح أن إبراهيم كان قبل الهبة الجديدة نبيا وكان رسولاً، طوى المراحل جميعا إلا واحدة، لم يكن ليبلغها إلا بعد أن يتم جميع الابتلاءات ( في الحديث الشريف: "إن الله (تبارك وتعالى) اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، وإن الله أتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، وإن الله اتخذه خليلا قبل أن يجعله إماما، فلما جمع له الأشياء، قال: "إني جاعلك للناس إماما"، قال: فمن عِظمها في عين إبراهيم، قال: ومن ذريتي". (الكافي، ج 1،ص175، كتاب الحجّة، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة، الحديث2).
ألا يشير ذلك كله إلى أن في منطق القرآن حقيقةً أُخرى أسمها الإمامة؟