اقتصادنا وانتكاسة الدولار
دخل الاقتصاد الاميركي في حال الكساد حيث يتوقع الا يتجاوز نموه هذه السنة 0,5 و0,7 في المئة في السنة المقبلة نتيجة تراجع قوي لثقة المستهلكين وتقلص ملموس للمبيعات وخفض للاستثمارات وكذلك في ازمة مقلقة ومؤلمة لم تشهد مثيلاً لها منذ ازمة عام 1929 نتيجة الخوف من انهيار القطاع العقاري وخسارة اكثر من مليوني اسرة منازلهم واهتزاز القطاع المالي والمصرفي بسبب نقص السيولة وخسائر تقارب الألف مليار دولار منها نحو 600 مليار دولار ناتجة من ازمة القروض العقارية البالغة بين 2000 و3000 مليار دولار ونحو 400 مليار من قروض رديئة ملحقة بها. وفي السياق عينه اظهرت خطوات المجلس الاحتياط الفيدرالي المتعلقة بخفض معدلات الفوائد من 5,25 في المئة الى 2,25 في المئة وضخ سيولة للمصارف تفوق الـ400 مليار دولار وحسم اوراق مالية لمؤسسات متعثرة عدم فاعليتها وجدواها، كذلك اعتبرت مساعدات الحكومة الفيديرالية الضريبية البالغة نحو 150 مليار دولار غير كافية. ويحتاج الاقتصاد الاميركي لانقاذه الى ضمان الحكومة الفيديرالية لهذه القروض، والى تنسيق فعلي بين المصارف المركزية العالمية.
اما اقتصادنا فانه يعيش تداعيات الكساد الاقتصاد الاميركي وانتكاسة الدولار التي سببت ارتفاعات قياسية ومستمرة لمعدلات التضخم والنفط والاورو والذهب. وكذلك يعيش تبعيات انتمائنا الى منطقة الدولار وارتباط الليرة بالدولار وتأثرنا بانخفاض معدلات الفوائد.
وتظهر التداعيات المباشرة وغير المباشرة عبر العناصر الآتية:
1 – التضخم: يسبب ضعف الدولار في ارتفاع ملموس لمعظم السلع الرئيسية والمواد الاولية والغذائية في الاسواق العالمية حيث اكثر من 60 في المئة من السلع مسعرة بالدولار. تؤدي هذه الارتفاعات الى تسجيل الاقتصادات العالمية معدلات قياسية للتضخم حيث فاقت نسبتها 4 في المئة في الولايات المتحدة، و3,3 في المئة في منطقة الاورو، واكثر من 9 في المئة في الصين وراوحت بين 8 و16 في المئة في المنطقة. كذلك تهدد الارتفاعات القياسية للأسعار الغذائية باضطرابات امنية في عدد كبير من الدول. في الوقت عينه تنعكس معدلات التضخم بارتفاع معدلات الفوائد في المستقبل وبولاء عهد الفائدة المنخفضة او الرخيصة وبالعودة الى عهد المعدلات العالية. اما في لبنان، فان معدل التضخم قد يتعدى نسبة الـ11 في المئة في السنة الجارية بسبب عوامل داخلية وخارجية، منها تحرير اسعار المشتقات النفطية، وارتفاع اسعار السلع في الخارج وتزايد قيمة الاورو.
يفترض في هذا السياق ان تتخذ الحكومة اجراءات فورية تؤمن اسعار تفضيلية للمشتقات النفطية ويجر الغاز من الدول الشقيقة، وكذلك ينبغي ان تصحح الاجور والرواتب للموظفين والعمال في القطاعين الخاص والعام تدريجاً على نحو يضمن القدرة الشرائية للمواطنين التي خسرت بين 10 – 15 في المئة في العام الماضي واكثر من 60 في المئة منذ عام 1996 ويحافظ على صحة المؤسسات في القطاع الخاص ولا يرهق المالية العامة للدولة أو يسبب في تزايد عامل التضخم. في الوقت عينه يتوقع من الدولة الاستمرار في دعم السلع الرئيسية، وتحديد هوامش الربحية من التشدّد في الرقابة، وتجميد الوكالات الحصرية، والغاء الرسوم الجمركية على السلع الغذائية والاساسية، وكذلك يتطلب منها مباشرة البحث في سعر صرف الليرة في مقابل الدولار من دون فك الارتباط حيث يفترض تحسينه بين 10 و15 في المئة بعد استتباب الامن.
2 – النفط: بلغت اسعار النفط مستويات قياسية بسبب ضعف الدولار والمضاربات في الاسواق المالية العالمية والاجواء الجيوسياسية المتوترة في المنطقة، وكذلك بسبب تزايد الطلب في الصين من 3,5 ملايين برميل يومياً الى 7 ملايين، ونقص قدرة المصافي لتكرير النفط. وانعكست هذه الارتفاعات سلباً على النمو الاقتصادي العالمي وتفاوتت تأثيراتها بين الدول وحيث تمكنت منطقة الاورو من تخفيف حدة الارتفاع بسبب تحسن سعر الاورو نحو25 في المئة مقابل الدولار خلال عام بينما تزايد سعر برميل النفط نحو 100 في المئة، اي من 57 دولاراً الى اكثر من 117 دولاراً، بسبب تقلص استهلاك النفط خلال الـ20 عاماً الماضية والتوجه نحو طاقات بديلة، وبفضل النسبة المرتفعة للضريبة والرسوم على المشتقات النفطية. اما بالنسبة الى الدول النفطية في المنطقة، فقد ساهمت هذه الارتفاعات في زيادة ايراداتها الى نحو 600 مليار دولار للسنة الجارية واتاحت لها تحقيق معدلات نمو مطردة راوحت بين 6 و13 في المئة وكذلك ساعدتها في تقليص العجز في المالية العامة.
اما في لبنان، فقد انعكست هذه الارتفاعات سلبا على حياة المواطنين بسبب رفع اسعار البنزين والفيول، وازدياد عجز مؤسسة كهرباء لبنان التي فاقت المليار دولار في العام الماضي، وتقلص القدرة التنافسية للقطاعين الصناعي والزراعي نتيجة ارتفاع الكلفة الانتاجية وكذلك ادت الى زيادة العجز في الميزان التجاري وخفض فائض ميزان المدفوعات بسبب تجاوز الفاتورة النفطية الملياري دولار سنويا.
3 – الاورو: يعود ارتفاع الاورو الى ازمة الاقتصاد الاميركي والتفاوت في معدلات الفوائد بين الولايات المتحدة 2,25 في المئة ومنطقة الاورو 4 في المئة. ويؤثر ارتفاع الاورو على اقتصادنا عبر زيادة اسعار السلع المستوردة من منطقة الاورو البالغة نحو 4 مليارات دولار وازدياد العجز في الميزان التجاري. في المقابل، نلحظ ان تبادلنا التجاري مع الولايات المتحدة متدنية، اذ لا تتعدى الفاتورة الاستيرادية 1,100 مليار دولار (10 في المئة) والصادرات 50 مليونا (2 في المئة). في الوقت عينه يعزز ارتفاع الاورو ايرادات الدولة نتيجة تزايد الضريبة على القيمة المضافة والرسوم الجمركية مما يساهم في تخفيف العجز في المالية العامة، كذلك يحسّن من القدرة التنافسية للصادرات اللبنانية في اتجاه منطقة الاورو ونسبتها نحو 12 في المئة ويشجع السياحة والاستثمار الاوروبي باتجاه لبنان.
4 – الذهب: يعود اسباب ارتفاع الذهب الى انتكاسة الدولار والمضاربات في الاسواق المالية العالمية، وتوفر سيولة قوية تبحث عن استثمارات آمنة تحميها من التضخم ومن تقلبات اسعار العملات، وكذلك يعود الى تقلص الانتاج العالمي للذهب وتجاوز كلفة استخراج الاونصة 400 دولار. ويؤدي ارتفاع اسعار الذهب الى تعزيز الثقة بوضعنا النقدي نتيجة رفع المخزون الذهبي الى اكثر من 9 مليارات دولار وكذلك يسمح لمصرف لبنان بشطب جزء من ديون الدولة لديه وخصوصا انه اطفأ سابقا نحو 3,5 مليارات دولار.
يتحمل اقتصادنا تداعيات انتكاسة الدولار مباشرة وغير مباشرة لانه يدفع ضريبة مضاعفة، الاولى نتيجة تراجع الدولار واضعاف القدرة الشرائية، والثانية بسبب ارتفاع اسعار السلع الرئيسية والاساسية. هذه الحال مرشحة للاستمرار خلال السنة الجارية.