خلال أحداث شارع المئتين في طرابلس
مثّلت نهاية فتح الإسلام في مخيّم نهر البارد بدايةً لنضوج ما سيليها من نشاطات جهاديّة في لبنان. وكانت محطةً إلزاميّةً ــ كما يبدو ــ لنموّ التنظيمات الجهاديّة التي بدأت تظهر في عام 2003 بشكل مباشر وفاعل
تكتشف السلطات الأمنيّة اللبنانيّة خليّةً لـ«القاعدة» في لبنان، وتعلن في بداية شهر تشرين الأوّل من عام 2003 اعتقال مجموعة من عشرين شخصاً، بينهم لبنانيّون وسعوديّون ويمنيّون وأردنيّون وفلسطينيّون وأتراك وسوريّون، بتهمة إنشاء تنظيم «القاعدة» عبر خلايا نائمة في المناطق وهيكليّة معلنة في مخيّم عين الحلوة. تلك كانت المرّة الأولى التي يحال فيها ملفّ واضح التهمة، وعمل التنظيم الدولي بعدها عبر لبنان مستفيداً من حجم كبير من التسهيلات التي توفّرها الأراضي اللبنانية والبيئة المحليّة.
لم يكن الفقر والظلم الذي يرى السنّة أنفسهم خاضعين له هو وحده ما حدا التنظيم إلى الدخول والاستفادة من المجال اللبناني، ولا كانت كثافة السنّة الملتزمين دينياً وحدها هي التي سمحت بتوسّع حركة الخلايا التابعة للتنظيم مباشرة أو بالواسطة. بل إنّ وجود عدد من القضايا التي لم يعد هناك من يمثّلها فعلاً، ومنع أهل السنّة من الانخراط في القتال المسلّح ضد إسرائيل، وفتح باب الجهاد أمامهم في العراق، الأرض الخصبة التي كبرت فيها شجرة «القاعدة»، كلّ ذلك فتح باب البلاد أمام «القاعدة» والمجموعات الجهاديّة.
في 21 أيلول من عام 2004، أعلن لبنان إحباط هجوم إرهابي على سفارتَيْ إيطاليا وأوكرانيا في بيروت، بالتنسيق بين المخابرات اللبنانيّة والإيطاليّة. وأعلنت وزارة الداخليّة اللبنانيّة إلقاء القبض على شبكتَيْن من تنظيم «القاعدة»، واحدة برئاسة أحمد سليم الميقاتي وأخرى برئاسة إسماعيل محمّد الخطيب.
إسماعيل الخطيب الذي سيموت تحت التعذيب، امتنع عن الإدلاء بأيّة معلومات يطلبها منه المحقّقون. وهو، بسبب ذلك، سيتحوّل إلى أسطورة وبطل بنظر أبناء منطقته وبنظر أخوته المجاهدين الذين سيجرون دورات أمنية ويطلقون عليها دورة الشهيد إسماعيل الخطيب، وهو ما يرد في اعترافات شبكة الـ13 أمام المحقّقين من فرع المعلومات.
بعد أعوام من ذلك، ستنفجر أعنف معركة ضدّ قوى جهاديّة في لبنان: معارك نهر البارد. وسيكتشف لبنان أنّه ليس معزولاً عمّا يجري حوله من نشاط للقوى الجهاديّة وصعود نجمها. تخيّل البعض أنّ الرقص على أنغام النشيد الوطني سيكون كافياً حتّى يطرد شبح الجهاديّين.
من مكان ما في لبنان، يتحدّث أحد عناصر «فتح الإسلام» عمّا عاشه في المخيّم خلال المعارك. الشاب اللبناني الذي كان في صفوف مقاتلي الحركة يقول إنّ من المهمّ «أن يعرف المسلمون، وخصوصاً أهل السنّة، حقيقة ما جرى».
ومن «فتح الإسلام» إلى «القاعدة»، ثمّة مسافة غير طويلة، إلّا أنّها تبقى قائمة. واتّسعت هذه المسافة مع بدء القتال في مخيّم نهر البارد، إذ كان الموقف الفعلي وغير المعلن للتنظيم الدولي هو عدم الانحصار في منطقة وعدم الدخول في معارك مباشرة. فللبنان أهمّيته الخاصّة في مسار أعمال التنظيم، وهي طبعاً ليست في العمل المباشر، إلا ربّما ما يتعلّق بوجود قوات الطوارئ الدولية. أمّا لناحية المسائل الأخرى، كالموقف من النظام اللبناني والدور في مقاومة إسرائيل والموقف من قيادة أهل السنّة، فالمسألة متروكة لحين آخر.
إلا أنّ «فتح الإسلام»، بعد انتهاء المعارك في مخيّم نهر البارد، حظيت باهتمام بارز في مواقع الجهاديّين المقرّبين من تنظيم «القاعدة»، ومدّت يدها لتطال الداخل الفلسطيني. وإن كان ثمّة من القياديّين الجهاديّين من يشكّك بالأمر، فإنّ عناصر «فتح الإسلام» الموجودين في محيطنا القريب يؤكّدون، في المقابل، ما يحصل من تطوّر في عمل الحركة وحتّى من تنسيق بينها وبين قوى جهاديّة محليّة.
«بدأت الحملة الإعلاميّة على فتح الإسلام قبل المعارك بوقت طويل»، يقول الشاب من فتح الإسلام الذي نجح في الانسحاب في اليوم الأخير من المعارك: «كانت الحملة من الحكومة ومن المعارضة على حد سواء، فكان كلّ طرف يتّهم الحركة بأنّها تعمل لمصلحة الطرف الآخر»، دائماً بحسب الشاب الذي سيرد ذكره في التقارير الخاصة بفتح الإسلام بصفته الناطق الإعلاميّ الجديد.
الشاب الذي يتحدّث بصراحة متناهية يشير إلى عدم تورّط «فتح الإسلام» رسميّاً في تفجير عين علق في 13 شباط من عام 2007: «لقد لُفِّقت هذه الاتهامات زوراً وبهتاناً ضد الحركة، فكانت الشرارة الأولى في صراع كانت فتح الإسلام تتوقّعه». وقرّر مجلس شورى الحركة «عدم الانجرار لأيّ صراع مع أي جهة في لبنان أو من داخل مخيم نهر البارد، وبقيت فتح الإسلام تعضّ على جراحها رغم الحصار والاستفزازات حتّى فجر العشرين من أيّار».
ويستطرد الشاب في كلامه ليشرح ما مرت به «فتح الإسلام» من مراحل قبل انفجار الصراع. فـ«من أوجُه صبرنا على الأذى قبل المعركة، أنّ حركة فتح قتلت أحد كوادرنا، وهو أبو عبد الرحمن المقدسي رحمه الله. وبالرغم من قدرتنا على تصفية وجودهم داخل المخيم، صبرنا حتى لا يقال إنّنا نريد تخريب الأمن في لبنان».
في كلّ مرة كانت تُعتقَل إحدى مجموعات «فتح الإسلام» أو عناصر منها، كان التنظيم يتّصل عبر أقنيته الخاصّة بقوى الجيش التي تعمل على معالجة الأمر. و«قبل المعركة بشهر ونصف، حوصر ثلاثة إخوة لنا في طرابلس، فتمّ الاتّصال بالجيش عبر وسطاء من المدينة، وبالتحديد من جبهة العمل الإسلامي، فتوصّلنا إلى حل للمشكلة»، بحسب المقاتل في التنظيم.
ولكن «ما حصل فجر العشرين من أيار هو أنّ مجموعة من الإخوة كانوا محاصَرين في مدينة طرابلس، فاتّصلوا بنا لنعالج الأمر كما كان يحصل في السابق. حصل فعلاً اتصال بيننا وبين بعض المشايخ، منهم (داعي الإسلام) الشهّال، وهدّدت الحركة بأنّها ستوسّع المعركة إذا تمّ قتل الأخوة. وهنا كانت اللعبة المكشوفة من جهاز فرع المعلومات، إذ رفض أي مبادرة للحل، بعكس ما كان يحصل سابقاً، وأصرّ على اقتحام الشقّة، وتمّ قتل الإخوة وإحراقهم في شارع المئتين».
«لعبة» هو التعبير الذي يستخدمه المقاتل، والذي يشرحه بالقول: «إنها لعبة لأننا توصلنا في السابق إلى أكثر من حل مع الجيش في قضايا أخرى، وهنا كان فرع المعلومات يغتاظ بشدة».
جاء قرار حركة «فتح الإسلام» عنيفاً هذه المرّة، «هنا اتّخذ القرار بعدم السكوت على هذه المجزرة الرهيبة التي وقعت واستُشهد فيها 17 أخاً مسلماً»، ودائماً وفق رواية المقاتل السابق الذي يضيف قائلاً: «أقدم الأخ أبو هريرة، ومعه مجموعة من الإخوة، على اقتحام حواجز الجيش حول المخيّم. ثمّ توسّع الهجوم حتّى وصل الإخوة إلى بلدة المحمرة، وسيطروا على الطريق الدولي بنيرانهم الخفيفة. وطبعاً هنا أشاعت بعض الجهات أنّنا ذبحنا الجنود، وهذا كذب واضح وفاضح. فالإخوة قتلوا الجنود بالرصاص، ومنهم من قُتل بفعل القذائف. فما جرى هو أنّه بعد قتل الأخوة في طرابلس، اقتحمَت مواقع الجيش المحيطة بنهر البارد وقتل الجنود والضباط هناك».
ويصر الذي سيشارك بسبب هذه الأحداث بمعارك لأكثر من ثلاثة أشهر: «ما حصل لم يكن غدراً كما أشيع، لأن الجيش كان مستنفراً. لقد كانت معركة حقيقية».
ويكشف أنه بعدما استمرّ القتال لمدّة يومين «بشراسة قبل أن تتدخل القوى الإسلامية في طرابلس، ونتوصل إلى وقف للنار. وهنا أؤكّد لك، والله يشهد على ما نقول، أنّ تيّار المستقبل وعناصر فرع المعلومات كانوا ينزعجون من توقّف القتال، فيقومون بإطلاق النار من المنية باتّجاه الجيش، وفي الوقت نفسه باتّجاه المخيم، فيعود الوضع إلى الانفجار». هذه هي الرواية المختصرة التي يقدّمها المقاتل لبداية المعارك.
المقاتل الذي انسحب في اليوم الأخير من المعركة بعملية فرار كبيرة تمكّن خلالها المقاتلون المنهكون الذين حلقوا لحاهم على عجل والتحرك بعيداً عن أعين الجيش اللبناني، يصر على القول إن «الصواريخ التي كانت تسقط على عكار لم تأت من المخيم، والله يشهد على ذلك».
مصائر مجهولةيعرّف المقاتل في صفوف حركة فتح الإسلام عن نفسه بالقول «أنا مسلم لبناني، كنت في المخيّم خلال المعركة وخرجت منه في اليوم الأخير». ويبدي تأكيده أنّ «هناك مبالغة كبيرة من الحكومة اللبنانية ومن الجيش في تقدير الضحايا»، واعداً بنشر أسمائهم، وهو الوعد الذي حقّقه بنشر 98 اسماً.
ويؤكد المقاتل أن التسجيل الذي بُثَّ لشاكر العبسي هو بصوته فعلاً، وهو يدعو قائده باسم «أبو حسين المقدسي حفظه الله»، من دون أن يتمكّن من تحديد مصير عدد من القياديّين من الحركة مثل أبو سليم طه الذي صدرت بيانات عن اعتقاله. لكنّ عدداً ممّن التقوه نفوا أن يكون الذي ظهرت صوره على التلفزيونات هو نفسه الناطق باسم فتح الإسلام. ويقول المقاتل: «الوضع الآن تغيّر، والإخوة موجودون في مناطق متفرّقة من لبنان وخارجه، وأنا لا أعرف من هم المعتقلون بالضبط، على الأقلّ حتى هذه اللحظة، لذلك لا أستطيع نفي هذا الأمر أو تأكيده».