يقول مولانا الإمام زين العابدين عليه وعلى آبائه السلام في إحدى مناجاته:
(إلهي ما ألذ خواطر الإلهام بذكرك على القلوب وما أحلى المسير إليك
بالأوهام في مسالك الغيوب).
ويقول مولى الموحدين والعارفين علي بن أبي
طالب عليه السلام: (إلهي كفى بي عزا أن أكون لك عبدا وكفى بي فخرا أن تكون
لي ربا، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب).
أهل العرفان يصفهم بعض الناس
وخصوصا العامة منهم أنهم يعيشون في أوهام صنعتها لهم أهواؤهم المضلة، فهل
يا ترى كل ما يشعر به هؤلاء العرفاء وهم وضلال ولا أساس له في دين الله
وشريعة محمد صلى الله عليه وعلى آله السلام أم أن لها واقع وحقيقة في
بواطن قلوبهم؟
سؤال يصعب الإجابة عليه وخصوصا لمن لا يعرف لغة أهل الله ومعانيهم التي نقشت في أفئدتهم بحب الله.
على
أي حال فالكلمات كما هي العقول عاجزة عن إدراك الحقيقة الإلهية، فلا
العرفاء استطاعوا ترجمة المعاني كما هي عليه في حقيقتها ولا العامة من
الناس مستعدة وصابرة لتلقي المعاني الدالة على هذه الحقيقة المحيرة للعقول
كما هي عليه في ذاتها ومعانيها الملازمة لها،ولهذا قال الإمام زين
العابدين في مقطع من المناجاة العرفانية …) وعجزت العقول عن إدراك كنه
جمالك وانحسرت الأبصار دون النظر إلى سبحات وجهك ولم تجعل للخلق طريقا إلى
معرفتك إلا بالعجز عن معرفتك).
فعندما يستنكر الإنسان المتدين الغير
السالك على الإنسان المتدين السالك أحواله وأقاويله فهو ليس استنكارا
اعتراضيا كما يظن بعض السالكين، بل بالعكس تماما فهو في حقيقته (هذا
العبد) يريد من السالك، أن يوضح له حقيقة السلوك إلى الله وما اعتراضه
عليه إلا من باب العجز الذي يصيب أي إنسان مهما كانت قدراته العقلية في
معرفة كنه الحقيقة الإلهية (يا من بفرط نوره اختفى)، (يدرك الأبصار ولا
تدركه الأبصار)، يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام في وصف السالك طريق
الحق: (قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ، وَأَمَاتَ نَفْسَه، حَتَّى دَقَّ جَلِيلُه،
وَلَطُفَ غَلِيظُه، وَبَرَقَ لَهُ لاَمِعٌ كَثِيرُ الْبَرْقِ، فَأَبَانَ
لَهُ الطَّرِيقَ، وَسَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ، وَتَدَافَعَتْهُ الاَْبْوَابُ
إِلَى بَابِ السَّلاَمَةِ، وَدَارِ الاْقَامَةِ، وَثَبَتَتْ رِجْلاَهُ
بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ الاَْمْنِ وَالرَّاحَةِ، بِمَا
اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ، وَأَرْضَى رَبَّهُ).
ولنرجع مرة أخرى إلى مولى
العابدين وسيدهم سيدي زين العابدين عليه السلام في مقطع آخر حيث يقول
(إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلا، ومن ذا الذي أنس بقربك
فابتغى عنك حولا).
إن الكلمات لتعجز عن وصف ما يترجمه هذا القول
لمولانا زين العابدين عليه السلام، إن حقيقة هذا القول لا يصفها ولا
يتذوقها إلا هؤلاء الناس الذي كان النور الإلهي مسكنهم وفي العرش سرهم
ونجواهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا إنهم أهل بيت النبوة
ومعدن الرسالة إنهم كلمات الله التي لا تنفد.
وهكذا نجد المحبة الإلهية
نهج سكنت فيه أفئدة كل العرفاء الذين تسربلوا بنور الولاية العلوية
والرسالة الخاتمة المحمدية، يقول الإمام النفري وهو عارف شيعي عاش في بلاد
الرافدين وذلك في القرن الرابع الهجري حيث قضى كل عمره في التجوال
والترحال، من قرية إلى أخرى حتى توفته المنية في مصر: (وقال لي إن لم
أشهدك عزي فيما أشهد أقررتك على الذل فيه، وقال لي طائفة أهل السموات وأهل
الأرض في ذل الحصر، ولي عبيد لا تسعهم طبقات السماء ولا تقل أفئدتهم جوانب
الأرض).
فمن يا ترى هؤلاء الذين لا تسعهم طبقات السماء ولا تقل أفئدتهم جوانب الأرض؟
إنهم
القائلون لشيعتهم قولوا فينا ما شئتم واجعلونا عبيدا لله ولن تصلوا. فمهما
قلنا فلن نصل إلى حقيقتهم فحقيقتهم تستبطن كل الحقائق وتخرس كل الألسن
وتلجمها بلجام التيه وإلى الأبد.
فسبحان من جعل حقيقته في أفئدة عارفيه وهما وجعل من الوهم في قلوبهم لنفوسهم مسكنا وروحا وراحة.
*******