الحـــج:
الحج فريضة على كل مسلم مرة واحدة في العمر، بشرط التمكن. ويعدّ الحج ركناً من أركان الإسلام. يشتمل الحج على الإحرام، وهو لبس ملابس غير مخاطة، والإمتناع عن الطِيب، والتزين، والإبتعاد عن النساء، و(عدم) قتل الحيوانات والحشرات، وعدم الجدال في الكلام، و(عدم) الإستظلال في الطريق، والطواف سبع مرات حول الكعبة وبين الصفا والمروة والهرولة في قسم من السعي، ثم الوقوف في صحراء عرفات نهار اليوم التاسع من ذي الحجة، والإفاضة الى المشعر، أي المزدلفة، ثم المكوث ثلاثة أيام بمنى، وذبح الأضحية، ورمي الجمار، ثم الرجوع الى مكة للطواف.
ولا شك أنّ هذه الأعمال شعائر وطقوس توحي الى الإنسان خضوعه للغيب، وتكرّس إيمانه وربطه واستسلامه لله شأن العبادات كلها. ومن متممات الحج زيارة مرقد نبي الإسلام محمد (عليه الصلاة والسلام) في المدينة.
وبالمناسبة، وما دام بحثنا قد تطرق الى الإجتهاد، أرى أن أثير اقتراحاً من على هذا المنبر الى المسؤولين في الحجاز، مؤيداً اقتراح بعض وفود العالم العربي والإسلامي، في إنشاء مصانع لحوم لحفظ وتعليب اللحوم ومساعدة الفقراء في الإستفادة منها في العمل والإستهلاك. إذ أنه في كل سنة تذبح في صحراء منى أكثر من مليون ذبيحة تترك في العراء، وفي هذا خطر على الصحة العامة وإتلاف للأموال. وإننا نلاحظ أنّ الواجب الشرعي يقتضي التضحية وإعطاءها للمحتاجين، أما هدر الأموال وإتلافها فلا، وهذا الإقتراح اجتهاد لازم محتوم في عصرنا.
مكة والكعبة:
مكة أو "بكة"، بتعبير بطليموس "مكوريا"، مأخوذة عن كلمة "مكورابا"، ومعناها: الحرم، تقع على بعد ثمانية وأربعين ميلاً من البحر الأحمر. ولها مركزها العظيم في تاريخ العرب، كما يُفهم من اسمها. وهي حرم في الإسلام، أي يحرم فيها الصيد وقلع الشجرة. وهي بلد آمن، يؤمّن الناس شرعاً على حياتهم. وقد قرر هذا الحكم النبي إبراهيم، واضع الحج ومشرّعه، رعاية لأمن الحجاج. وله أيضاً شرعة الأشهر الحُرُم، وفيها تترك الحروب والمنازعات التي كانت تملأ حياة العرب لوجود عادة القصاص القبلي.
والكعبة، في حديث ديني، أول نقطة من الكرة الأرضية المذابة، هذه النقطة التي تجمدت فصارت أرضاً وأعقبتها بقية النقاط. وقد عبّر الحديث عن هذا التطوير بدحو الأرض. وهذا هو السبب الأول لقداسة الكعبة عند المسلمين.
والقرآن الكريم يقرّ أنّ الكعبة هي أول بيت وُضع للناس ولهدايتهم، وكان بيت الله الحرام قبل بناء إبراهيم لها، حيث يقول: ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك الحرام (إبراهيم: 37).
والمؤرخون، ومنهم المسعودي، يرَون أنّ موضع البيت كان ربوة حمراء أمر إبراهيم هاجر زوجته أن تتخذ عليها عريشاً ويكون لها مسكناً.
ثم يبدأ التاريخ المدون للكعبة حينما بنى إبراهيم، بمساعدة ابنه إسماعيل، هذا البيت. وقد نقلت القصة التواريخ، ويشرح القرآن الكريم الواقعة بقوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى وعهدنا الى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركّع السجود. وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات مَن آمن منهم بالله واليوم الآخر. قال ومَن كفر فأمتّعه قليلاً ثم أضطره الى عذاب النار وبئس المصير. وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم (البقرة: 125-127).
فالكعبة أصبحت محلاً للعبادة ومحجة للناس يأتونه رجالاً وعلى كل ضامر يأتي من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات (الحج: 26-27).
وفي التواريخ ما يثبت أنّ الحج الى الكعبة لم يكن مختصاً بأتباع إبراهيم المعروفين بالحنفاء. بل كان محجة من قِبل كثير من الأمم والأقوام. فكان الهنود يعظمونها ويقولون إنّ روح "سيغا"، وهو أحد الأقانيم عندهم، حلّت في الحجر الأسود حين زار وزوجته بلاد الحجاز. وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيين يعدّونها أحد البيوت السبعة المعظمة، وربما قيل إنه بيت زحل لقِدَم عهده وطول بقائه. وكان الفرس يحترمون الكعبة أيضاً زاعمين أنّ روح "هرمز" حلّت فيها، وربما حجّوا إليها زائرين. ومن الثابت أنّ من بين التماثيل والصور التي كانت معلقة على الكعبة قبل الإسلام، كانت صورة النبي موسى والسيد المسيح والسيدة مريم العذراء، مما يدل على قداسة الكعبة عند اليهود والمسيحيين.
وقد دفن إسماعيل (عليه السلام) في المسجد الحرام قرب الحجر الأسود، والحجر الأسود هو صخرة بركانية قديمة، تاريخه مليء بالأساطير، وكان في وسط الكعبة ثم وُضع في عهد النبي محمد وقبل بعثته في ركن منها. وبناء الكعبة هذا هو الذي يشير إليه المؤرخون ويضيفون أنّ العرب استعملوا في بنائها أخشاباً ورخاماً رومانياً أخذت من سفينة مكسورة على شاطئ البحر الأحمر.
والكعبة كانت منذ أيام إبراهيم معبداً لعبادة الله، حتى انفعل أحد الزعماء بالعمالقة الذين كانوا يحكمون الشام آنذاك، وهو حارثة بن عامر المعروف بعمرو بن لحى، فجاء بالصنم الغريب المعروف بـ"هبل"، وهو بمعنى "الروح" أو "البخار" باللغة الآرامية.
ثم تكاثرت الأصنام، وفي بعض التواريخ أنّ الكعبة تحولت الى بيت للأصنام، وكان عددها ثلاثمئة وستين صنماً، حطمها النبي محمد جميعها يوم فتح مكة.
وآخر بناء للكعبة كان في عهد عبد الملك بن مروان، كما كان آخر تجديد ترميم لها في أيام الخليفة العثماني سليمان القانوني.
مرجع الشيعة الأول يحج الى مكة:
مرجع الشيعة الأول ككل مسلم يشعر بواجب الحج، ويحاول تأديته. وقد أخبرني المرجع الحالي منذ عهد غير قريب بهذه النية. ولكن المهمات والمسؤوليات الملقاة على عاتق المراجع مباشرة تمنعهم وترفع عنهم الإستطاعة التي هي شرط لفريضة الحج.
والسيد محسن الحكيم، أي المرجع الأول في عهدنا، يفضّل الحج بالرغم من شيخوخته، كخطوة من سلسلة الخطوات التي نراها من زعماء الأديان في عصرنا هذا. وقد لمس الإنسان أكثر من أي وقت مضى، لزوم اللجوء الى الله بعدما أثقلت الأعباء كواهل الناس وأخذت بهم دواعي القلق. ففي هذه الخطوات تذكير من زعماء الأديان ومحاولة منهم جديدة لإيقاظ الضمير الإنساني والتوكيد أنّ الحياة الطيبة المتناسبة المتكاملة لا يمكن أن تستقر إلاّ في أعماق الدين.
وهناك أمل للمرجع الأول في هذه الرحلة يتمنى تحقيقه، وهو إعادة تنظيم المشاهد المشرّفة الواقعة في المدينة، ولعلكم لا تجهلون، أيها السادة، أنّ قبر فاطمة بنت محمد وقبور الإمام الحسن بن علي والإمام علي بن الحسين، منشئ "الصحيفة السجادية"، والإمامين الباقر والصادق، اللذين ملآ الدنيا بعلومهما الفقهية والأدبية والطبيعية، وكذلك قبور جمع من أجداد النبي وأصحابه، هذه القبور التي أغنى أصحابها العالم أجمع تراثاً، ودفعوا العرب والمسلمين، بشكل خاص، فأغنَوا التاريخ حضارة، هذه القبور كانت معمّرة منظّمة وكانت مزارات للناس والحجاج.
ومنذ أقل من أربعين سنة تصدى الحكام هناك ونفذوا فتوى شاذة لبعض الفقهاء وهدّموا هذه المشاهد.
ويحاول المرجع الأول في سفره هذا إعادة البناء والظفر بموافقة الحكومة على هذا الأمر، لعلاج الجرح المحزن الذي لا مسوّغ أصلاً لوجوده ولا داعي لاستمراره.
وهناك غاية ثالثة يفكر فيها الجهاز الديني في النجف الأشرف، ويصرّ على إبرازها في هذه الرحلة، وهي إظهار واقع المرجعية وعظمة المرجع وعمق نفوذه في نفوس الناس، الأمر الذي خفي على الحكام في مختلف البلاد الإسلامية لسطحية كثير منهم، ولعوامل أخرى، قد يكون منها التواضع الكلي الذي يتّصف به المرجع في النجف، فجهلوا أو تجاهلوا هذا المقام الرفيع، وأوجدوا بعض المضايقات للأجهزة العلمية الدينية في مختلف البلاد الإسلامية. ولو أدركوا الحقيقة لاستقامت مواقفهم ولكان هذا خيراً لهم وللشعوب.
إنّ المرجع الأول لا يطمع في حكم ولا يرمي الى سلطان، وخصوصاً أنّ هذا يفقده شروطه لبقائه مرجعاً، كما أنه لا يتدخل في سلطات الحكم الزمنية إلاّ بمقدار النصح والإرشاد، وكثيراً ما يخفف عن الحاكمين تبعاتٍ جساماً في مجال العمران الداخلي وتعبئة الشعب لما فيه التقدم والخير.
أيها الحفل الكريم:
منذ مدة قريبة أطلت على العالم رسالة "السلام على الأرض" من القديس العظيم، العظيم جداً، "يوحنا الثالث والعشرين"، ثم أعقبت هذه الرسالة دعوته الى انعقاد المجمع المسكوني الذي ما يزال يستمر في مهمته.
وفي هذه السنة أخذت أنباء حج قداسة البابا "بيوس السادس" الى الأماكن المقدسة تملأ مسامع الدنيا، ذلك فضلاً عن التقاء الحَبرين، قداسته وغبطة البطريرك "أثيناغوراس"، في مهبط المسيح ومعراجه.
وما تـزال أخبار المؤتمر العام لعلماء المسلمين في القاهرة تتناقلها الألسن. والآن نسمع بنبأ رحلة المرجع الأول
للشيعة الى حج بيت الله الحرام.
هل من صلة تربط هذه الإلتقاءات الروحية، وهل من مخطط لهذه النشاطات المعنوية؟ سؤال علينا أن نجيب عنه وقد عرضنا الحلقة التي لن تكون الأخيرة من هذه السلسلة.
الرسالات الإلهية ذات أطوار ثلاثة تبدأ برسالة الضمير الإنساني، تليها رسالة الأنبياء، وأخيراً رسالة التجارب المريرة والصعوبات والمشكلات التي يعانيها الإنسان، والتي هي محركات لدفع الإنسان الى الخير والكمال. ولعلكم تسمحون لي، أيها السادة، بتوضيح موجز حول هذا البحث.
خلَق الله البشرية كلوحة فنية ذات ألوان مختلفة، يزيد في جمالها اختلاف الصفات والألوان مما يمهد لها سبل التكامل، وخلَق سبحانه للإنسان فطرة سليمة وضميراً واعياً هو رسوله الأول ورسوله الباطن يهديه سواء السبيل ويشعره بأنه جزء من الكون يكمل بعض أجزائه ويكتمل بها، فهو بعض لا كل، فرد لا شخص.
فالإنسان بهذا الشعور عاش سعيداً في أول الخلق: كان الناس أمة واحدة (البقرة: 213)، ثم سيطر عليه جهله فانحرف فاتخذ من أخيه عدواً ومن عضده منافساً ومزاحماً، فصنع من نفسه ومن أسرته ومن قبيلته ومن عنصره أصناماً عبدها وجعلها آلهة من دون الله الواحد، فكانت الخلافات، وأصبح الإنسان في أزمة عنيفة، وعانى من النار التي أوقدها ما عانى: فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه (البقرة: 213).
بعث الله الرسل لحل هذه المشكلات، ولاستقامة سير الإنسان الى طريقه الحق، ولإيقاظ ضميره وتوقه الى الصلاح.
بعثهم ليرجعوا الناس الى مواضعهم الأصيلة، ليرشدوا الى الطريق الذي يبدأ من الإنسان ومن واقع الإنسان ذي الإرادة والإستقلال في الرأي، والجزء من الأسرة البشرية، والجزء من الكون، والجزء من الماضي، والجزء من المستقبل، والحلقة الممتازة في هذه السلسلة الواسعة الأزلية الأبدية.
من هنا، من واقع الإنسان، إتّبع الأنبياء النظام الأصيل الكوني، النظام الذي هو صورة من صفات الله، نظام الحق والعدالة: والسماء رفعها ووضع الميزان (الرحمن: 7).
فجعلوا الإنسان ينسجم في طريقه مع الكون كله، فإذا الكون كله تسبيح لله وسجود له وتمجيد لعظمته.
فأوضحوا الغاية وهي التخلّق بأخلاق الله، والوصول الى مقام خلافته في طريق ليس فيه فشل، بل كله نجاح.
إنّ الوصول الى الهدف مهما كان شريفاً ليس شرطاً أساسياً للنجاح في طريق الأنبياء، بل السعي الى الهدف هو المطلوب، فلا سقوط في الطريق ولا أخطاء، ففي كل خطوة عبادة، وفي كل عمل تسبيح، وفي كل طاقة ظاهرية أو باطنية أجر، وفي كل نتيجة مشاركة.
فجنّدوا، بذلك الأسلوب، الإنسان تجنيداً ليس له نظير، وخلقوا منه طاقة هائلة لا مثيل لها. رسموا جواً ملائماً لإبراز الكفايات المتفاوتة تمهيداً لتفاعلها. فنادَوا بحرية الإنسان، الحرية من عبودية إنسان آخر، الحرية من عبودية الأشياء، الحرية من النفس، فالحرية عندهم مطلقة لا حدّ لها، وليست حرية تلك التي تصطدم وحرية الآخرين، لأنها إطاعة للنفس وعبودية للأهواء، ومن كان حراً من نفسه وأهوائه فلن تصطدم حريته مطلقاً وحرية الآخرين.
رسم الأنبياء هذه الخطة، وأدّوا رسالتهم وأعلنوا أنّ التفاوت في الخلق، في الفكر، في المواهب وفي الدين يجب أن يصرف في سبيل خير الإنسان، وأن يكون وسيلة للتسابق نحو الأفضل.
هذا القرآن يقول: وقفّينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون. وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتّبع أهواءهم عما جاءك من الحق، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات، الى الله مرجعكم جميعاً فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون (المائدة: 46-47-48).
وهذه رسالة القديس بولس الى أهل "كولوسي": "ولا يكذّب بعضكم بعضاً، بل اخلعوا الإنسان العتيق مع أعماله والبسوا الإنسان الجديد الذي يتجدد للمعرفة على صورة خالقه حيث لا يوناني ولا يهودي ختان ولا أقلف ولا أعجمي ولا أسكوتي ولا عبد ولا حرّ بل المسيح هو كل شيء وفي الجميع، فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء الرحمة واللطف والتواضع والوداعة والأناة محتملين بعضكم بعضاً مسامحين بعضكم بعضاً. إن كانت لأحد شكوى على آخر، وسامحكم الرب سامحوا أنتم أيضاً".
هذا القرآن يقول: إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (المائدة: 69).
وهذه رسالة "غلاطية" في العهد الجديد يقول: "ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر ولا أنثى، لأنكم جميعكم واحد في المسيح يسوع، فإذا كنتم للمسيح فإنكم إذن نسل إبراهيم وورثته بحب إبراهيم".
سبحان الله، ما أشبهه بالقرآن: وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم، وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم، هو سمّاكم المسلمين من قبل، وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، واعتصموا بالله، هو مولاكم، فنعم المولى ونعم النصير (الحج: 78).
نعم! رسم الرسل هذه الخطة الواضحة وطلبوا من الناس أن يتعارفوا وأن يستبقوا الخيرات وأن يكونوا كما أراد لهم ربهم.
ثم أتمّوا الحجة، ودفعاً لكل ما يُحتمل وقوعه بين أبناء دين واحد من الإختلاف في الرأي قالوا بلسان محمد: "إختلاف أمتي رحمة".
والحقيقة أنّ التفاوت في الرأي وفي الأديان من أهم أسباب الحركة الفكرية وعدم الجمود ومن مستلزمات ظهور المواهب الذاتية.
ولكن الإنسان، ويا للأسف، جعل من الدين أو المذهب مركباً جديداً للخلافات وتعبيراً قوياً عن أهوائه وأنانياته، فأثار هذا العنوان فتناً كبرى ومشكلات وأزمات أكثر من قبل.
وبعد اللتيا والتي، وبعدما تعب من ثقل الأعباء واكتوى بالنار التي هي حصيلة أعماله، حاول العلاج، فاعتبر أنّ المسـؤول عن هذه المشكلات هو الدين، فوضعه وراء ظهره وتجاهله أو عزله عن دوره القيادي واعترف به طقوسـاً
وشعارات.
ثم بقي أمام مشكلاته، أمام الفواصل المصطنعة العازلة لأجزاء الأسرة البشرية بعضها عن بعض، أمام المنازعات والحروب، أمام القلق. بقي أمام هذا كله يفكر في الخلاص.
والإنسان تمرّ أيامه وسنواته وهو يحاول العثور على طريق سليم للإستقرار والسلام والرفاه.. ويدخل في تجارب عديدة.
هذه حالة إنساننا اليوم: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (الروم: 41).
هذه المصائب وهذا القلق ليست إلاّ نتائج أعمال الإنسان وبُعده عن واقعه الكوني، وهي تهيب به للعودة الى ربه.
ويعبّر عن هذا الواقع وهذه العودة هؤلاء الرجال الذين نذروا أنفسهم لخير الإنسان ونسوا مصالحهم وحاجاتهم في سبيل مصالح الإنسان.
هؤلاء يهاجرون من أماكنهم ومن بيوتهم الى مهابط الوحي، الى المجامع الروحية، حيث يدخلون في بيوت الله على الأرض، في ملكوت الله حيث البعد عن الأنانيات، عن الحاجات والمصالح الشخصية، حيث الوحدة.
هؤلاء الرجال يهاجرون الى مواطن العبادة، العبادة لله فقط دون الخلق، مواطن الرحمة والنور حيث بدأ الإنسان. قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون (الأعراف: 29).
ونحن في لبنان، في هذه الواحة النموذجية، في هذه القطعة التي تمثّل بيت الأسرة البشرية، نحن الآن، ومن خلال تجاربنا التي يتجاوز عمرها عمر الحضارات القائمة بأجمعها، نحن هنا ومن خلال وضعنا الخاص، نتمكن بكل سهولة أن نعبّر عن هذه الرسالة الإلهية السامية.
فليكن شرف الإبتداء للندوة اللبنانية التي لا يكون هذا أول مآثرها.
وختاماً، أرجو أن تكون هذه الرحلة المباركة الى مكة رحلة موفقة، وأن لا يمنع من تحقيقها الوضع الصحي للمرجع الأول، وأرجو أن تكون رحلتنا هنا، وفي هذه الندوة، قد أدت واجبها.
--------------------------------------------------------------------------------
(*) أُلقيت في "الندوة اللبنانية"، بتاريخ: 6/4/1964، ونُشرت في "منبر ومحراب" في 31/8/1981.