محاضرة لسماحة الإمام السيد موسى الصدر بعنوان: أضــواء وتأمــلات
"محاضرات الندوة اللبنانية بذور للمعرفة نغرسها في مزرعة الزمن، فإذا أثمرت وآتت أكلها، تحققت غايتنا، وأدركنا أمانينا، ولا فرق أن يكون هذا في أيامنا أو في العصور القادمة".
بهذه الجملة افتتح الأستاذ ميشال أسمر حديثه معي، وكفى بهذا الهدف المقدّس بدءاً وختاماً! وسأكون سعيداً جداً، إذا وُفّقت بمحاضرتي الليلة لتكون بذرة في هذه الأرض الطيبة، حتى إذا استقامت، أدت واجبها للحياة وشاركت في بناء الفكر الحضاري، وحسبي هذا وفاء للأرض المتعهدة بالنماء، الزاهرة بالعطاء.
الإنسانية تعيش بوجود واحد يتفاعل بمختلف أجزائه بعضها مع بعض، وكلما ارتقت ثقافة الإنسان وازدادت معرفته: تجلّت هذه الحقيقة وازدادت وضوحاً.
وتجزئة هذا الوجود خلاف للناموس الإلهي، إذ خلَقه موحداً. وهي خلاف لطبيعة الإنسان وفطرته التي تنـزع الى هذه الوحدة، كما أنها خلاف لمصلحته العليا القائمة على التعارف والتعاون والتفاعل بين أبناء الأسرة البشرية، فمحاولة التجزئة تحمل خطورتها بين طيّاتـها كيفما انتسبت وبأية صورة ظهرت، ولو أُلصقت بأقدس مقدّساتنا كالدين والوطن، فكيف بها إذا انحرفت مع الأهواء فبرزت باسم العنصرية والطائفية واختلاف المستوى الحضاري بين الشعوب؟
نحن نعترف بحقيقة الفرق بين أفراد البشر، ولكننا نقرّ ونؤكد أنّ هذا التفاوت يجب أن يكون سبباً للحركة والتعارف، وموجباً للتعاون والتبادل والتكامل: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا (الحجرات: 13).
نعم! إنّ هناك ميزات وتراثاً خاصاً، وتجارب لكل شعب، لكل عصر، لكل طائفة، ولكل منطقة. فوجب أن تبرز وتتضح لبقية الأفراد حتى يأخذوا من صالحها: النصيحة، ويفهموا من معناها: الفكرة، ويستفيدوا من نجاحها: الطريقة. وبهذا تتمكن الإنسانية أن تستمر في سيرها الطبيعي نحو الكمال والرفاه والسعادة.
والطريق الطبيعي للوصول الى هذه الغاية النبيلة إنما هو التعريف عن حقيقة تجربة فئة لها دورها الفكري ولها أسسها في توضيح العقيدة، ولها خصائصها العلمية. وإخفاء هذه الحقائق والميزات يوجد شيئاً من التخوف والحذر، تشوبهما غالباً عناصر أخرى، فتمنع التفاعل وتتحول الى روح العداوة وعدم الثقة.
في هذه المحاضرة المتواضعة تشعرون، أيها السادة، بمحاولة لتعريف جامع عن الشيعة، الإجتهاد، المرجع، المرجع الأول، الحج والكعبة، ولعلنا نساعد بعض الشيء ندوتنا في هدفها النبيل، فنقدّم للمستمعين الى محاضرتنا هذه، هدية تعادل سعيهم للحضور، وشكراً عملياً مع شكرنا المعنوي.
وأنا واثق من أنّ المزرعة النموذجية التي هيأها الله (سبحانه) لنا، أعني لبنان، سوف تساعد أرضها الخصبة، من جهات متعددة، على أن تقوم بهذه المهمة، وسوف نرى أكثر من قبل أنّ أماني الندوة تتحقق، وأنّ الأستاذ ميشال وزملاءه يجنون ثمار أعمالهم ومساعيهم الخيّرة كل حين.
كما أني آمل أن يستمر هذا النوع من البحث، و(أن) تشمل المحاضرات مواضيع تلقي الأضواء على حقيقة ما لدى جميع الفئات والشعوب والأقوام: أعضاء هذا الجسم.. جسم الإنسانية.
إنّ موضوع محاضرتنا هو "مرجع الشيعة الأول يحج الى مكة"، فلندخل في صميم موضوعنا، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
الشيعــة:
الشيعة فِرقة من المسلمين ينتمون الى الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ويعتبرونه نموذجاً كاملاً للمسلم ومرآة تامة لنبي الإسلام محمد (صلوات الله عليه).
أصل الكلمة مأخوذ عن حديث نبوي شريف جاء في كتب الحديث، كـ"الصواعق المحرقة" لابن حجر، و"النهاية" لابن الأثير، و"الدر المنثور" للسيوطي، إذ قال النبي: "يا علي إنك ستقدم على الله أنت وشيعتك راضين مرضيين".
ولقد كان في طليعتهم جمع من كبار صحابة الرسول، كفاطمة بنت رسول الله، وقليل من المهاجرين، وكثير من الأنصار، وبنو هاشم، حسب نقل الطبري وابن قتيبة والمفيد والطبرسي وغيرهم.
وفي إمكاننا أن نلخّص ما تختص به الشيعة من بين سائر الفرق الإسلامية في أمرين:
الأمر الأول: موضوع الخلافة.
الأمر الثاني: الموضوع الماثل بين أيدينا اليوم، أي موضوع الفقه الذي يشمل جميع أعمالنا، من عبادات ومعاملات.
الخلافــة:
إنّ الإسلام، بما أوتي من المحتوى في مجالات العقيدة والأعمال والأخلاق، له في الحياة والكون نظرة خاصة، وله بالنسبة الى الخير والشر، ميزان معيّن. وله مفاهيم جديدة تختلف كل الإختلاف عن النظرات والموازين والمفاهيم التي كانت سائدة قبل الإسلام، عند العرب وغيرهم.
يتضح هذا الفرق بالتسمية التي أطلقها الإسلام على العصر المقارن لظهور النبي، أي اسم "الجاهلية". فإنّ هذه التسمية تبيّن لنا بوضوح رأي الإسلام في العصر الجاهلي.
ولقد كان على النبي، لكي يغيّر نظرة العرب العامة في الكون والحياة، ويقلب موازينهم ومفاهيمهم، ويصهرهم في بوتقة الإسلام، كان على النبي، بالإضافة الى التعليم وبيان الأحكام، أن يخلق مجتمعاً كاملاً فيتسلّم مقاليد السلطة الزمنية فيه، مستخدماً عامل الزمن والوقت.
السلطة الزمنية: لخلق مجتمع سليم، تسلّم الرسول هذه السلطة بولايته الموكلة إليه من الله (سبحانه) بحسب ما ورد في الآية الكريمة: النبي أَولى بالمؤمنين من أنفسهم (الأحزاب: 6)، والى هذا يشير الحديث الشريف: "بُني الإسلام على خمس: الصـلاة، الزكـاة، الحج، الصـوم، الولاية. وما نودي بشيء مثلما نودي بالولاية". ولا يخفى تأثير الحكم
الصالح في تكوين المجتمع الصالح، وتأثير المجتمع في تربية الأفراد.
عامل الزمان والوقت: إنّ تربية الناس، وصهرهم في بوتقة الإسلام، بحاجة الى فترة من الوقت غير قصيرة للتحول الأفكار والآراء وتُجتث العادات وتُستأصل الرواسب، ولا بد لذلك من الوقت الكافي. فنـزلت الأحكام تدريجياً، خلال ثلاث وعشرين سنة، وحرّم الخمر والميسر، مثلاً، تحريماً قطعياً في أربع مراحل، بعد السنة الرابعة للهجرة.
وإذا لاحظنا قصر مدة حكم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهي عشر سنوات، ونظرنا في عِظَم المهمة وصعوبتها، نعرف السبب لاعتقاد الشيعة لزوم تعيين خليفة بنص من الله يحكم باسمه ولو الى فترة انتهاء هذه المهمة.
فالشيعة تعتقد أنّ خلافة علي، أي ولايته، ثابتة حسب النص، وأنّ سبب اختياره كونه شخصية إسلامية محضة، وتلميذاً دخل في مدرسة محمد مذ كان في السادسة من عمره، وبقي فيها طوال حياة المعلّم، حتى قال معلّمه في حقه: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، وقال: "علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه أينما دار".
فقه الشيعة:
إنّ مصادر التشريع عند المسلمين عامة تبدأ بالقرآن الكريم، كتاب الله، ثم تليه السيرة النبوية الشريعة، من قول النبي وفعله وتقريره، أي إمائه وموافقته، ويختص النبي بآيات من القرآن الكريم تجعل سيرته حجة لا مجال للشك والتردد فيها.
الى هنا يجتمع المسلمون كلهم، كما أنّ الجميع تقريباً يعترفون باعتبار إجماع الأمة، وبدليل العقل الذي يعبّر عنه بعضهم بالنبي الباطن، كما يعبّرون عن النبي بعقل الكون والعقل الظاهر.
ولكن الواقع أنّ بعض تفاصيل الأحكام الشرعية غير صريحة في القرآن الكريم، وغير واردة في السنّة الشريفة التي وصلت الى المسلمين. وقد نقل إلينا تاريخ الفقه عشرات الموضوعات التي وقعت بعد وفاة رسول الله، دون أن يكون هنالك حكم منقول عن الرسول. هنا اعتمد كثير من المسلمين على آراء الصحابة الكبار وفتاواهم، إذ أنهم عاشوا مع الرسول واطّلعوا على سيرته عن كثب. فأقرّوا آراء الصحابة على أنها مصدر ثالث للتشريع يُعتمد عليه، واستندوا الى أحاديث أظهرها حديث منسوب الى النبي (صلّى الله عليه وآله): "أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم".
أما الشيعة فإنها تعتمد على قول أهل البيت، الأئمة، وتعتبر قولهم وفعلهم وتقريرهم مصدراً ثالثاً للتشريع، وتستند الى نصوص منقولة عن رسول الله كحديث "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا. وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".
وحديث: "من أحبّ أن يحيا حياتي، ويموت موتي، ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي، فليتولّ علياً وذريته من بعده. فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى ولن يدخلوكم في باب ضلالة".
والمعروف أنّ الشيعة يعتقدون بعصمة الأئمة، ولا يعتبرونهم مجتهدين، بل هم نَقَلة الأحكام وحمَلَتها عن رسول الله بكل أمانة ودقة، وبدون خطأ، حيث أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
والواجب ذكره في هذا المجـال أنّ المصدر الثالث عند الشيعة والمصدر الثالث عند غيرهم يتداخلان في كثير من
الأحايين، إذ أنّ بعض الأئمة، كالإمام علي، والحسن بن علي والحسين بن علي، من أصحاب رسول الله، يتفق الجميع في صحة أقوالهم وحجية آرائهم.
كما أنّ هناك جمعاً من الصحابة نص رسول الله على اعتبار قولهم وكونهم مع الحق. وهذان الأمران هما مع وحدة سائر مصادر التشريع: الكتاب، السيرة، الإجماع، العقل، ووحدة الأساس لصحة الأحاديث هو القرآن الكريم. كل هذا جعل تقارباً ظاهراً بين فقه الشيعة وغيرهم من الفِرَق.
وتجري منذ مدة غير قصيرة محاولات لدراسة الفقه المقارن وأصوله، ولا شك أنّ تقارن الآراء يحدث تقدّماً علمياً وحركة فكرية في مجالات الفقه الواسعة، وتقارباً على أسس مدروسة بين الأمة.
الإجتهــاد:
وهو المفسَّر باستفراغ الوسع لتحصيل الحكم الشرعي من الأدلة الشرعية، يعني أنّ المجتهد ليس مشرّعاً ولا مغيّراً للقوانين الشرعية، بل المجتهد ينظر ويصرف طاقته في سبيل استنباط الحكم وتطبيقه على موضوعه.
والموضوع يشغل دوراً مهماً في تطوير الأحكام، إذ المقصود من الموضوع هو فعل المكلّف. وهو يتغير بحسب الأزمان والمجتمعات. فالمجتهد بعد درس الموضوع يحاول إخراج حكمه من الأدلة ومصادر التشريع. وكثيراً ما يكون الموضوع أمراً جديداً ليس له نظير في أيام التشريع، فيحاول المجتهد استنباط حكمه عن القوانين العامة والأصول الكلية. وليس دوره مراعاة المصالح والظروف، ولا وضع قانون أو حكم جديد للشيء.
ويختلف دور المجتهد عن دور المحدّث، من حيث أنّ المحدّث ناقل والمجتهد يضم جزءاً من نفسه، وهو رأيه، الى الواقع. ويختلف دوره عن دور المشرّع من حيث أنّ المشرّع لا يتقيد إلاّ بالمصالح والظروف.
والمجتهد أيضاً لا يتقيد بفتاوى الآخرين، بل يحرم على المجتهد التقليد، بحسب رأي الشيعة، وما أكثر المجتهدين الذين خالفوا الماضين وأبدَوا آراء جديدة وفهماً جديداً للأدلة، فقوبل عملهم هذا بالتكريم. كما أنّ هنالك خطة مهمة لعدم التقيد بفتاوى الماضي، وهي أنه لا يجوز تقليد الميت لانقطاع عصره.
فالإجتهاد حركة فكرية، واستقلال في الرأي، وانطلاق لتطبيق الأحكام المستنبطة على الحياة المتطورة، مع الإحتفاظ بالإطار الإلهي للأحكام. إذا لم يتقيد الإجتهاد بهذا الإطار، فالحكم الديني يفقد مفهومه وأساسه، لأنّ العنصر الأساسي للدين هو كونه إلهياً صادراً عن الغيب. فإذا انقطعنا عن الغيب واستنبطنا الأحكام حسب الظروف والمصالح فلا يمكن اعتبار الحكم دينياً، بل يصبح قانوناً بشرياً.
والمعروف أنّ عنصر الإيمان بالغيب يمثل دوراً مهماً في حياة الإنسان، جعل للدين مكانه المميز تجاه العلم والفلسفة والحقوق والأخلاق.
واليوم، في القرن العشرين، يشعر الإنسان أكثر من أي وقت مضى بحاجته الى أن يؤمن بالغيب دون منتوجات العصر المتطورة المتزلزلة، كي يطمئن قلبه، وتستقر أعصابه، وترضى رغباته المحدودة، ويقلّ القلق الذي يشعر هو بازدياده يوماً بعد يوم. ولكن الغيب الذي يحتاج إليه الإنسان هو الغيب الذي لا تشوبه خرافات وأساطير، ولا يخلق مشكلات ومتاعب، ولا يمنع سير الإنسان نحو الكمال.
نريد الغيب الذي يرسم للعالم صورة واقعية مليئة بالخير والحياة والجمال، قائمة على أساس الحق والعدل.
ونذكر الآن، بعد هذا التحديد، أمثلة للإجتهاد تعيننا على استيعاب البحث، فالزكاة، مثلاً، وهي صدقة للفقراء، كانت تطبّق سابقاً بالشكل الطبيعي، وذلك لسهولة معرفة الفقير وسهولة تنفيذ الحكم. ولكن هذا الأسلوب، في عصرنا الحاضر، يحدث مشكلات شتى، إذ أنّ معرفة الفقير أصبحت صعبة. ثم إنّ الصدقة تخلق طبقة من الكسالى، يتركون العمل ويصبحون عالة على المجتمع، مما يتنافى مع كرامة الإنسان.
فلو طوّرنا حكم الزكاة "التي لا تحلّ لمحترف ولا لذي مرة قوي سوي" ووزنّاه بصيغة الضمان الإجتماعي للعمال مثلاً، فيقبض العامل أجره أيام مرضه وعطلته، نكون بهذا قد أعطينا العامل بكرامة، كما نكون قد اجتهدنا جهاداً صحيحاً.
وهكذا صرف الزكاة في تأمين التعليم والصحة بلا عوض للطبقات الضعيفة، وفي تغطية عجز الشركات التعاونية، وفي تأسيس صندوق لمساعدة الطبقات بقروض دون فائدة. كل هذا تطبيق سليم واجتهاد لحكم الزكاة.
ونسرد هنا ما نقرأ في كتب فقهائنا المعاصرين من تصحيح المعاملات والعقود الحديثة بقانون: "أوفوا بالعقود" ما لم تخالف القواعد الصحيحة، ومن تطوير كثير من أحكام الزواج والطلاق بقانون: "المؤمنون عند شروطهم"، وغير ذلك.
كان لأئمة الشيعة الأثر الأكبر في تخطيط الأسلوب الصحيح للإجتهاد وفي تعليمه. وأنّ كون الأئمة إثني عشر عاشوا مع الأحداث في اثني عشر جيلاً، لما يسهل لهم المهمة التي أصبحت جد شاقة نظراً لبعد الزمن والحوادث الطارئة ودخول الأكاذيب في الأحاديث.
المرجــع:
الإجتهاد، كما قلت، أمر فني دقيق يختص بالفقيه الممارس، الواسع الإطلاع، صاحب الإبداع، الواعي للحياة التي يعيشها، فلا يمكن أن يحصل على هذا المقام إلاّ الإختصاصيون. وبهذا ينقسم الناس الى مجتهد ومقلِّد. فالمجتهد العادل هو المرجع، أي يرجع إليه المقلّد في أمور دينه، كرجوع الناس الى أصحاب الخبرة. ومقام العدالة مقام كبير، يتلو مقام أصحاب الخبرة. ومقام العدالة مقام كبير، يتلو مقام العصمة، وهو سيطرة الإنسان على نفسه سيطرة تجعله لا يرتكب المعاصي، وتصبح هذه السيطرة عادة له.
وتهتم الشيعة بالعدالة وتجعلها شرطاً أساسياً في المرجع والقاضي وإمام الجماعة والشاهد والراوي.
المرجع الأول:
عرفنا أنّ التقليد لمجتهد هو طريق للوصول الى الأحكام الإلهية الدينية. فقول المجتهد ورأيه سبيل الى المعرفة. ولا شك أنّ المجتهد كلما زاد علمه وخبرته ازدادت ثقة المقلّد بصواب رأيه. وهذا ما يفرض على الشيعي أن يقلّد أعلم المجتهدين، حرصاً على بلوغ الحق. وأعلم المجتهدين هو المرجع الأول عند الشيعة.
أيام كانت المواصلات بدائية، لم يكن الوصول الى أعلم المجتهدين ميسوراً.. معرفة الأعلم كانت تُحدث مشـكلة،
فلما ارتقت وسائل المواصلات وازدادت، لاحظنا ازدياد نسبة المقلّدين لمرجع واحد والتوجه الى المركزية.
في القرون الأولى كان المراجع المقيمون في مختلف البلاد يتقاربون قوة وعدد مقلّدين، إلاّ فيما ندر من الشخصيات العلمية الكبرى كالمفيد والمرتضى والطوسي، الذين نجد في مؤلفاتهم أجوبة لأسئلة فقهية أُرسلت إليهم من أماكن بعيدة كرسائل: ميافارقيات وطرابلسيات وتبّانيات، المرسلة من لبنان الى العراق.
فالأولية في مرجع الشيعة ليست قديمة جداً، ولكنها ليست إلاّ نتيجة للقواعد الثابتة عندهم ولسير الزمن وسهولة المواصلات.
ولكن سلطة المرجع الأول على سائر المجتهدين محدودة بالمصالح العليا. أما فتاواه فهي نافذة عند المقلّدين دون المجتهدين، إذ أنّ كل مجتهد مكلّف العمل بفتواه دون فتوى المرجع، وعلى المرجع أن ينفّذ حكم المجتهد العادل إلاّ في حالة العلم بخطأ المصدر.
إنتخاب المرجع الأول:
إنتخاب المرجع الأول لا يخلو من طرافة، فالمرجع لا تعيّنه السلطة، ولا ينتخبه مجلس واحد من بين المراجع، ولا يعيّنه الإستفتاء العام. بل إنّ الطائفة حينما تحتاج الى المرجع الأول، لوفاة المرجع السابق، ترجع الى علماء الدين في كل قطر وفي كل بلد وفي كل قرية. فتطلب إليهم تعيين أعلم المجتهدين. ولا شك أنّ رجال الدين المتخرجين غالباً في الجامعات الكبرى يعرفون الأعلم، لأنهم درسوا وتخرّجوا على جماعة متقاربة الكفايات، وهم يزاولون النشاط الفكري والفقهي بمراجعة كتب المرشحين لهذا المركز. فيختار كل عالم للتقليد، مَن هو أعلم في نظره من دون معرفة لمن يعينه زميله في بلد آخر، وحينئذ يتبوّأ مركز المرجع الأول مَن ترجع إليه أكثرية المقلّدين.
ولا شك أنّ هناك شخصاً أو أشخاصاً يقلَّدون من قِبل جماعات كثيرة ويشتركون في إعطاء الآراء الجديدة وتنشيط الحركة الفكرية وفي الزعامة الدينية.
ولهذا السبب عينه يصبح المرجع الأول مقاماً معنوياً حقيقياً مهماً، إذ يتعلق بقلوب الملايين، ويكون قدوة لهم، ولا ينفعل بالعناصر التي تؤثر في التعيين أو الإنتخاب.
إنّ حساسية هذا المركز وعمق نفوذه في نفوس الملايين وفي مقدّرات البلاد والعباد، لما يجعل له شروطاً دقيقة وقيوداً ثقيلة. فالعنصر والقومية وغير ذلك من التقسيمات، لا تؤثر في تعيين المرجع الأول، بل العلم الجمّ الذي جعله أستاذاً لأغلب العلماء الموزعين في أقطار العالم والإدارة الحسنة التي تؤهله لتسيير الأمور والقيام بالأعباء الثقيلة، والزهد الذي يرفعه نعن الطمع بالأموال التي تنهال على أعتابه دون مسؤولية، والتاريخ النقي الذي تحفظه صدور المعنيين بالأمر من أول طفولته الى شيخوخته، والخلق الرفيع، هذه الصفات هي المؤهلات لتعيين خليفة الإمام وحجته.
ومن المظاهر العادية أن ترى المرجع الأول، آناء الليل وأطراف النهار، يستقبل كل إنسان ويمشي في البلد مع مرافق واحد يساعد شيخوخته. ولا ينقطع المرجع الأول عن الصلاة في الناس والإتصال بهم يومياً وإلقاء المحاضرات على منبر يحيط به الأفاضل، يناقشونه في كثير من الأبحاث دون مراعاة.
وهو مع ذلك كبير، كبير في نفوس الناس، ويكفينا أن نتذكر حادثة التبغ في إيران سنة 1900 لنرسم صورة لأثر
المرجع الأول: كانت شركة إستعمارية قد نالت امتياز التبغ في إيران، فاستغلت جهل الحكام وحاجتهم الشخصية الى المال، فسيطرت، حسب بنود الإتفاق، على مساحات شاسعة من الأراضي والأحراج بحجة أنها لازمة لزراعة التبغ، وبذلك أسست دولة قوية ضمن دولة ضعيفة. فالتجأ المخلصون من زعماء الشعب وعلمائه، بعدما يئسوا من إقناع الملك، الى المرجع الأول، وكان حينها السيد محمد حسن الشيرازي، المقيم في سامراء بالعراق. فحكم بحرمة التدخين في إيران. وهكذا حاربوا الشركة محاربة سلبية سلمية. حتى أنّ الملك ناصر الدين شاه طلب ذات يوم في قصره الخاص "نارجيلة"، فأنكرت عليه زوجته الملكة وغطت وجهها عنه بحجة أنّ الذي حلّلني لك حرّم عليك ذلك. فأدى هذا الحكم الى إفلاس الشركة وخروجها من البلاد وإلغاء اتفاقيتها.