كلمة للسيد موسى الصدر في يوم الولاية.. يوم الإمام علي عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
اليوم يوم الولاية ويوم كل موالي، فأنتم يا أولياء ولي الله أصحاب المجلس وأبناء المهرجان: المجلس لكم، أما كلمتي في هذا اليوم فعن الولاية التي هي معنى هذا اليوم، نحتفل بيوم الغدير لا لكي نبتهج، لأننا لا نشعر في عقلنا وقلبنا ما يدعو الى الابتهاج والسرور، وانما نجتمع لنصلّي ولنتزوّد ونتسلّح لمستقبلنا المظلم، في هذا اليوم نجتمع في هذا المكان لكي نشعر، لكي نتزوّد ونتسلّح ليومنا العصيب ولمستقبلنا المظلم، نجتمع في يوم علي (ع) لكي نجدّد بيعتنا معه ولكي نتّخذ منه في سيرته ومن سيره خطاً لكي ينبعث ويحيي في قلبنا الأمل ..
الولاية هذا يومها، فرسول لله (ص) في مثل هذا اليوم كان عائداً من حجّة الوداع، وصل الى مفترق الطرق فنادى في الناس بالاجتماع، هذا الاجتماع الذي كان في وادي جحفة وبقرب غدير خم هو آخر اجتماع بين نبي الإسلام وبين أمّته، هذا الاجتماع كان بمثابة جلسة الوصية لأنّ الأمّة بعد هذا اللقاء كلٌ ذهب الى بلده متزوداً بما سمع، والنبي الكريم (ص) عاد الى مدينته، وقد وافاه الأجل بعد شهرين أو يزيد من هذا التاريخ، فالاجتماع حصل في هذا اليوم عند مغادرة رسول الله أمته وفي خطبة بدأها بقوله بعد الحمد والصلاة (..) نعى نفسه في أول خطبته، فهو في اجتماعه الأخير يريد ان يثبّت خلود دينه ويؤسس بقاء رسالته، يودّع في هذا اليوم العصيب أمّته فيزوّدهم بما اذا حافظوا عليه يستمروا، وكان رسول الله (ص) فيهم.. إذن الاجتماع الذي حصل في هذا اليوم وفي ذلك المكان، وبعد الإعلان عن قرب وفاة رسول الله (ص) يكون هو الاجتماع الأساسي التاريخي المصيري في حياة الأمة، الفصل الثالث من حياة رسول الله بدأ في هذا اليوم، الفصل الأول بدأ يوم بعثة الرسول، والفصل الثاني بدأ يوم هجرة الرسول، واليوم فصل بدأه رسول الله بكونه نبي الخلود خاتم الانبياء (بيوم الغدير)..
في هذا اليوم جمعهم وقال لهم بعد الحمد والصلاة وإعلان الوفاة وأخذ الإقرار بأداء الرسالة، قال: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قالوا بلى، هم يعترفون بالآية الكريمة (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)، وبعد ذكر هذه القرينة والتأكيد على ان الولاية ليست حباً ومودّة فقط (بل تفسير وتطبيق ومضمون الآية الكريمة)، وحينما قالوا: بلى يا رسول الله قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، ثم رفع يديه قائلاً: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله، ثم أمرهم بأن يبايعوا علياً وأن يسلّموا عليه بإمرة المؤمنين ..
في هذا اليوم الذي كرّس ولاية علي نريد أن نبحث بعض الشيء، في معنى الولاية في معنى خلود رسالة محمد (ص)، في معنى ما نحتاج اليه في هذا اليوم، الولاية وردت في اكثر من آية، وفي الأحاديث المتواترة، والولاية ليست حباً ومودة فحسب، يقول الحديث الشريف المتواتر: بُني الإسلام على خمس: الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، والولاية، وما نودي بشيء مثل ما نودي بالولاية، ما هي الولاية التي هي أهم من الصلاة والزكاة والحج والصيام؟ وما هو السبب في هذا الاهتمام؟ لأن الحديث يتابع فيقول: ولو أن احداً قام ليله وصام نهاره وحجّ دهره وتصدّق بجميع أمواله ولم يكن ذلك بدلالة ولي الله لن يُقبل الله منه ..
ما هي الولاية التي لها في الإسلام هذا الأثر العميق والدور العظيم؟ الولاية مضمون الآية الكريمة "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم"، أولوية رسول الله بأمته وأنفسهم معناها وجوب إطاعته، ووجوب اطاعة الرسول غير وجوب اطاعة الله (وإن كان ذيلاً من ذيول إطاعة الله)، إطاعة الله ما معناها؟ الإنسان هل يتمكن من استماع أمر الله ونهيه بالطرق المباشرة؟ هل أحدنا سمع كلام الله بصورة صحيحة؟ طبعاً لا، هل أحد منا يسمع كلام الله بإذنه طبعاً؟ لا، إذن نحن نسمع كلام الله عن طريق نبيّه، فإذاً قال رسول الله: هذا واجب، وهذا حرام، افعلوا، ولا تفعلوا، ونحن أطعنا هذا القول وطبّقنا هذا التعليم، فقد أطعنا الله، هذا ليس إطاعة الرسول، إطاعة الرسول التي بعد إطاعة الله في قوله تعالى "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، إطاعة تختلف عن إطاعة الله وتختلف عن تنفيذ الواجبات والمحرمات والأوامر والنواهي، فالأوامر والنواهي والواجبات والمحرمات هي في الحقيقة (أرجو الانتباه).. الواجبات والمحرمات والأوامر والنواهي هي في الحقيقة إطاعة الله، وليست إطاعة لرسول الله، فطاعة الرسول لها معنى اخر يختلف عن معنى إطاعة الله، ما معنى إطاعة الرسول؟ فيما عدا إطاعة الله، اطاعة الله تعني الإسلام لله، التسليم لأمر الله، تطبيق قوانين الله موجود في القرآن والأحاديث النبوية، الإسلام بأجمعه وبأكمله قد اكتمل في هذا اليوم، ولكن إطاعة الرسول كوليّ للأمر وحاكم انما هي في تطبيق أوامره التنفيذية، يعني رسول الله (ص) بعدما بلّغ أمته الرسالة الإلهية جاء لكي يطبّق هذه التعاليم على الأمة، وتطبيق هذه التعاليم على الأمة عبارة عن تشريعات تطبيقية، من باب المثل: عندنا قوانين في كل بلد تشرّعها القوّة الاشتراعية، التشريعية، المجلس، ثم هذه القوانين تسلَّم الى الحكومة، والحكومة تنفّذ هذه القوانين في مراسيم مسوّدات وقرارات صادرة من مجلس الوزراء، ثم من السلطات المحلية الأنزل فالأنزل، فإذن تطبيق القوانين أيضاً: قوانين صغيرة في إطار القوانين الكبيرة، كيفية تطبيق الدين تشريع أيضاً، ولكن تشريع في إطار التشريع الكبير الذي هو من صنع الله سبحانه وتعالى، فإذاً رسول الله حينما كُلّف تطبيق الإسلام، حينما كُلّف بتنفيذ تعاليم الله كان يأمر وينهي ويضع مراسيم وطرق وكان يضع وسائل وأسباب لأجل تطبيق شريعة الله، وهذا معنى التشريع في الولاية، هنا يأتي معنى وجوب إطاعة الرسول في اطار ولايته، إذن الولاية اطاعة رسول الله ومن بعده إطاعة علي وأولي الامر ، الإطاعة في حقل تطبيق، قلت هذه المقدمة لكي أصل الى هذه النقطة: الولاية سلطة إلهية لتطبيق أحكام الله أعطيت لرسول الله (ص)، والولاية وجوب إطاعة الأمة للرسول ولولي الأمر، هذا الوجوب إذا طُبق يعني إذا كل فرد من أفراد الأمة أطاع الولي وطبق ونفذ فقد مكّنت الأمة رسولها بتكوين مجتمع صالح لأن المجتمع الصالح إذا يريد الرسول ان يكوّنه يجب عليه ان يتخذ تدابير، وهذه التدابير إذا طُبقت يتكون المجتمع كما كوّن رسول الله هذا المجتمع بعد الهجرة، إستلم الحكم وكان يأمر وينهي ويجمع ويدافع ويحارب ويصنّف وينظّم في إطار الأوامر الإلهية، فتمكّن من تكوين المجتمع الإسلامي لكي يهيىء بيئة صالحة لنمو الإنسان وتربية الإنسان، الإنسان يتأثر وينفعل ويسمو بصلاته، الصلاة معراج المؤمن، فالصلاة تؤثّر في كمال الإنسان ونموّ الإنسان، وهكذا الصيام والحج والجهاد، ولكن أكثر العوامل تاثيراً في تكوين الإنسان هو خلق المجتمع الصالح.. البيئة الصالحة إذا تكونت فسوف تؤثّر في نموّ الإنسان وتربية الإنسان وكمال الإنسان أكثر من الصلاة والصيام، ونحن نشاهد هذا مشاهدة واضحة بأنّ الإنسان يتاثر بالبيئة وبالمجتمع الذي يعيش فيه، إذن الولاية اعتراف من الأمة وتمكين من الأمة لوليّها لكي يؤسّس مجتمعاً صالحاً، والمجتمع الصالح أكثر تاثيراً في رفع مستوى الإنسان ونمو الإنسان وكمال الإنسان من الصلاة والصيام والزكاة والحج، ولهذا يقول الحديث: ما نودي بشيء مثلما نودي بالولاية ، لأن الصلاة والصيام والزكاة والحج تأثيرها محدود ومؤقّت، بينما المجتمع تأثيره مطلق ويخلق آثاراً عميقة ثابتة تكوّن الإنسان وتحافظ على الصلاة، إذن الولاية (هي) إطاعة الفرد، نحن ربما نناقش ونبحث أنّ إطاعتي أنا ماذا تؤثر في تكوين ذلك المجتمع ولكن المجتمع يتكون من تخطيط ولي الأمر وتمكين الأمة له لكي يكوّن ويربّي، فإذاً ما نودي بشيء مثلما نودي بالولاية، يعني إذا اطعنا الله في شريعته وأطعنا الرسول وأولي الأمر في تطبيق الشريعة معنى هذا أنّ الصلات الاجتماعة التي توجد بين أبناء مجتمع واحد (هذه الصلات) تنبثق من إطاعة الله، ما هو السبب في كيفية معاملة أخي المواطن أو أخي المسلم؟ لأي سبب أعامله هذه المعاملة؟ المجتمع صلات الأفراد بعضها مع بعض، هذه الصلات التي هي مبادرات وأفعال وخطوات من الإنسان إذا انبثقت وصدرت بأمر من الله حينئذٍ الإنسان منسجم في إيمانه وأعماله، بينما إذا كان الإنسان كما يزعمون (هناك دعوة في العالم) بأن الدين والإيمان للإنسان وصلة الإنسان مع الله، فأحتفظ بايماني وبأخلاقي ولكن في صلاتي الاجتماعية أستوحي من مبدأ الآخر (مبدأ سعادة الإنسان مثلاً، والايمان بالإنسان مثلاً) بمحاولة لفصل الإيمان عن النشاطات والأعمال الخارجية، هذه المحاولة مغالطة لأنّ الإنسان موجود واحد، هذا الموجود الواحد لا ينفصل ولا يتجزأ الى موجودين، موجود يؤمن بالله، وموجود يؤمن بالإنسان، وينطلق بإيمانه بالإنسان في نشاطاته الاجتماعية، فإذا كان الإنسان يعيش في مجتمع غير مؤمن، المجتمع إذن مؤمن وغير مؤمن، مثل الإنسان، الفرد قد يكون مؤمناً وقد يكون غير مؤمن، قد يؤمن الإنسان بالله، وقد لا يؤمن، إذا يكون المجتمع علماني غير مؤمن فتفسير هذه الكلمة ان الإنسان في حياته العادية (يعني في اتصالاته مع الناس).. هذا هو تكوين المجتمع، أرجو الانتباه: أوضح المقدمة حتى نصل الى نتيجة المجتمع، حقيقة المجتمع، صلات الأفراد بعضهم مع بعض، لو افترضنا أنّ ألف إنسان عاش كل واحد منهم في غرفته في كهفه لا يتصل بالإنسان الآخر، لا يأخذ ولا يعطي ولا يبيع ولا يشتري ولا يدفع ولا يمنع، هذا ليس مجتمعاً طبعاً.. الشخص وحده.. المجتمع متى يتكون؟ حينما يكون بين الأفراد اتصالات، أخذ وعطاء، وإلا تصور أن الف شخص تضع كل شخص في غرفة منفصلة عن الغرفة الأخرى ليس بينهم أي اتصال وأي تفاعل، هذا ليس بمجتمع، هذا شخص، ليس مجتمعاً واحداً، بينما لو وجدت عشرة أشخاص، كان بينهم تفاعل، فقد كوّنت مجتمعاً، فإذاً حقيقة المجتمع بالاتصالات بينهم، وبين الأفراد، والصلات يبن الأفراد، والتفاعل بين الأفراد، هذه حقيقة المجتمع.. فكما أنّ الإنسان قد يكون مؤمناً، وقد لا يكون مؤمناً، المجتمع أيضاً قد يكون مؤمناً، وقد لا يكون مؤمناً، متى يكون المجتمع مؤمناً؟ اذا انطلق ووضع أسس اتصالاته على أساس الإيمان بالله، المجتمع غير مؤمن إذا انطلق وضع اتصالات الأفراد بعضهم مع بعض لا على أساس الإيمان بالله، هذا الفرق بين المجتمع المؤمن والمجتمع غير المؤمن، على هذا الأساس تكون الأعمال الاجتماعية، يعني: بيع، شراء.. زرع.. إدارة.. كتابة.. تفاعل.. زيارات.. هذه الأعمال الاجتماعية إذا ما انبثقت من الإيمان بالله فقد أمارس أنا الفرد نوعين من العمل، نوع أقوم به كصلاتي، كعباداتي، كأخلاقي، أنطلق بهذا النوع من العمل من الإيمان بالله، هذا النوع من الأعمال مكرَّس في نفسي، مبدأي الذي هو إيماني بالله، لكن النوع الثاني الذي هو الأعمال الاجتماعية التي أمارسها لا بداعي الإيمان بالله، هذه الأعمال أيضاً تكرّس وتنمّي في قلبي إيماناً بمبدأ ثاني، ولو كان الإيمان بالإنسان، لأن الإيمان بالإنسان على نوعين أيضاً، بين إيمانه وبين إيمانه، وبين نفسه وذاته.