أوضاع الأمة اليوم
ولدى المقارنة الدقيقة بين العدالة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية بما لها من جذور أيديولوجية وأبعاد واضحة ، وبين واقع مجتمعات الأمة في يومنا هذا نجد البون الشاسع .
أن ربع القرن الأخير شاهد في أرجاء العالم الإسلامي مساعي ومكاسب حثيثة في حقل العدالة وفي تطبيق قسم من الأحكام المرتبطة بها إلا أن الأسس الضرورية لها لم تكن متوفرة، ولذلك نجد هذه المساعي وتلك المكاسب متفرقة ، غير منسجمة وقليلة النتائج .
فالانفصال بين مبدأ العدالة الاقتصادية والاجتماعية وبين الأيديولوجية الإسلامية ، وهو جزء من مأساة الفصل بين العقيدة والشريعة ، هذا الانفصال بوجوده وبقناعة المسلمين على مختلف فئاتهم فيه ، أفقد العمق والشمول والدوام في أسس العدالة حتى أصبحت العدالة الاقتصادية والاجتماعية وغيرهما أصبحت مطلبا اجتماعياً وموضوعاً سياسيا صرفا.
هذه العقيدة المنفصلة عن نتائجها الاجتماعية بقيت شعورا نفسيا لدى اكثر المسلمين ، لا تؤثر في أوضاعهم الحياتية ولا في سلوكهم الخاصة والعامة لدى البعض بالعبادات فقط لتنظيم العلاقة بين الفرد وخالقه فحسب ولتسهيل رحلة الموت ليس إلا … أننا نعرف بالضبط متى حصلت هذه المؤامرة ؟ وهل تمت على يد الصديق الجاهل ؟ أو العدو المتربص ؟ ولكن الثابت أن الصورة كانت موجودة قبل التفاعل الفكري بين أوروبا وبين العالم الإسلامي ، ثم برزت بعد هذا التفاعل بشكل واضح ومؤثر حتى أصبحت هي المدرسة الطاغية على الأمة .
أن الله يعبد في المعابد وفي أيام الجمعة وشهر رمضان ، والإيمان ينعكس على الإنسان في ظروفه الصعبة ، لدى مرضه ، وفشله وهزيمته ، وفقره ، شيخوخته . أما ساعات الحياة ، وأوقات الشباب ، والصحة ، والنصر ، والنجاح ، فلا… !
والسوق والمصنع والحقل والمكتب وسائر أماكن الحياة ، مسدودة في وجه الإيمان ، خارجة عن سلطانه .
إن الذين أسسوا هذه الرؤية وبشروا بها ، إذا كانوا قد أرادوا مجالات للعمل لا ينافسهم الإيمان ولا يراقبهم الله ، حتى يمارسوا مطامعهم وأهواهم ، ويستغلوا الإنسان دون رحمة ويختاروا وسائل لكسب الأرباح دون قيد ولا شرط ، ودون التزام منهم باختيار الوسيلة الشريفة للكسب، إن الذين أرادوا هذا ، وهم رسل الحضارة الغربية المادية ، أولئك الذين اعتبروا المشاعر الدينية والإلتزامات المعنوية عقبات في طريقهم فاستمروا بقلع جذورها وبإطفاء جذواتها في العالم ، بعد أن قضوا على أيام أسكولاستيك ورجالها ثم فتحوا بذلك الساحة للرأسمالية ، رسالتهم المقدسة ، حتى بدأت تمارس عملها بحرية مطلقة دون أي التزام ، فصنعت وأنتجت وبالغت في الإنتاج ، وفتشت عن أسواق للاستهلاك ، فاستعمرت ، واستثمرت ، وحاربت ، وفتكت بالشعوب ، وبالحضارات ، واصطنعت الحاجات و… و… و…
إن هؤلاء في نهاية المطاف سيلاقون ، وقد بدأت العلائم تؤكد ما سيلاقون ، من حفر قبور حضارتهم وتحطيم الإنسانية ومدنيتها ، لأنهم بعملهم خلقوا في ساحات الحياة فراغا عقائديا ، وفقرا يكاد يكون كفرا ، وتناقضات خلقت لشعوب العالم ولهم صعوبات مستعصية وآلاما لا علاج لها .
نعود إلى وضع أمتنا ، بعد هذه الجملة المعترضة لنقول : لقد انفصل الإنسان عن العدالة ، أفرغت العبادات عن محتوياتها و أصبحت طقوسا رغم أن القرآن الكريم أكد مرات ، أن العبادات ، والصلوات بالذات ، إذا اقترنت بمنع الماعون ، أو أي حاجة أخرى عن الجار ، فالويل للمصلي .
ولعل بعض رجال الدين بدعوتهم أو بسكوتهم ساهم في أن تحل العبادات موضع العدالة ، مع أن الإسلام أعلن : أن أفضل العبادات كلمة حق عند سلطان جائر .
ومن الواضح أن نتيجة السلوك التربوي هذا كانت خطرة للغاية حيث أن فقدان العدالة في المجتمعات تجاوز نطاق الأخطار السياسية الاجتماعية إلى الانحرافات العقائدية فخلقت خيبة أمل كبرى بالنسبة إلى الدين المتمثل بمؤسساته وبرجاله ، أولئك الذين يسكتون عن هذه المظالم ، ولا يناضلون لأجل الناس .
وخلاصة القول أن هذا الانفصال خلق فوضى في المساعي الرامية لتحقيق العدالة في مجتمعاتنا ، وترك صعوبات اجتماعية وسياسية وعقائدية بالغة .
وعندما تتحقق العدالة بصورة جزئية لدى بعض المجتمعات بمعزل عن القاعدة العقيدية ، فان الصعوبات تتعاظم ، لأن العدالة هذه تحمل معها مقارناتها العادية والثقافية ، وتفرض على المجتمع نوعاً معينا من الاستهلاك ، وبالتالي أسلوبا جديدا للحياة يعرضه للضياع .
إن مسؤولية علماء الدين في هذا الميدان كبيرة ودقيقة وعاجلة لأنهم أمناء على خدمة الأمة وأبنائها ، سيما المحرومين منهم ،ولأنهم وحدهم يتمكنون من إعطاء صورة صحيحة عن نضال المحرومين والمظلومين داخل المجتمعات ، ومن أبعاد صفة التطرف والإلحاد عنه، وبصورة خاصة أن علماء الدين يقدرون على منع التشويه عن المساعي التي تبذل لوصول الحقوق إلى أصحابها ، فقد اعتاد الظالمون والمغتصبون من اتهام هذه الحركات بالإلحاد أو بالطائفية ، وخير علاج لهذه الأسلحة الفتاكة ، هو وقوف علماء الدين معها وتبنيهم لها.
إن واقع الأمة في يومنا هذا ليس فقط مصابا بعدم الإدراك للعدالة الاقتصادية والاجتماعية الإسلامية وما ينجم عنه من أخطار الانفصال وعدم الرؤية الشاملة للعدالة وغيرها.
بل أن الواقع يؤكد عدم ممارسة العدالة الاقتصادية والاجتماعية إلا في حالات نادرة.
فالمحرومون من الحياة الكريمة ومن العدالة ، يزداد عددهم باستمرار داخل المجتمعات الإسلامية ، ويتعمق إحساسهم بالحرمان بصورة متزايدة ، نتيجة لوجود البذخ والتظاهر بالغنى والترف فيما بينهم .
والشعوب الإسلامية تعيش اليوم في البلاد المختلفة بأقصى أنواع التفاوت بين مستويات الحياة ، بعد بروز الثروات الطبيعية وارتفاع أسعار المواد الأولية في البلاد ، فقد زاد فقر الشعوب الكثيرة وزاد غنى الآخرين .
يحصل كل ذلك ويبدو الواقع المرير بوضوح أمام الجميع ، دون أي تبرير لتطبيق العدالة بين هؤلاء الشعوب الذين ينتمون إلى أمة واحدة .
لقد ساهمت الدول العربية الغنية في تمويل الموازنة الحربية للدول المواجهة ، ولكن المساهمة هذه لم تبلغ عشر الأرباح التي وفرتها لهم الحرب . ثم المساهمة في الحرب مع إسرائيل لا تغني عن ضرورة المساهمة مع الشعوب المسلمة التي تكافح الفقر والجوع والتخلف.
هذا مع العلم أن المطلوب لتحقيق العدالة ليس المساهمة والهبة بل القروض دون فوائد ، تمكن الشعوب الفقيرة من رفع مستوى حياتها بواسطة تنفيذ مشاريع التنمية . وقد شجع الإسلام على القرض دون فائدة ، واعتبر أن درهما من القرض يقابل بأجر من عند الله يفوق درهم الصدقة .
وإذا ما تابعنا دراسة أوضاع الأمة نجد ما يدهشنا ، حيث أن الدول الإسلامية تعامل الشعوب الإسلامية الأخرى معاملة الشعوب الأجانب ،بل في بعض الأحيان تعاملهم بصورة أقسى .
فالجمارك الشائعة على المنتوجات ، والقيود المفروضة على العمال وعدم تمتع العمال المسلمين في أكثر بلاد الإسلام بالحقوق المطلوبة ، والظروف القاسية التي تحيط بالخبراء المسلمين الذين يهاجرون إلى البلاد الأخرى ، وتعرضهم للإهانات والمن والأذى ، وتأثير العلاقات المتوترة بين الحكام على العلاقات بين الشعوب ، خاصة على الفئات الكادحة ، أن هذه الملاحظات وغيرها كثيرة ومؤلمة وتؤكد غياب العدالة عن ساحات الأمة في هذا اليوم .
ولا بد من إضافة خطوط أخرى لكي تكتمل الصورة الحقيقية عن واقع الأمة ووضع العدالة فيها أنها وضع الشباب ، القلق الذي يساورهم حول المستقبل من جهة ، والانحرافات التي تعتريهم بسبب فقدان الرعاية الدقيقة من جهة أخرى ، وكذلك وضع المرأة ، ووضع سكان المناطق النائية، والمزارعين في أكثر البلاد الإسلامية .
والآن وفي نهاية هذا العرض أقدم المؤتمر الكريم هذه المقترحات :
1- إصدار توصية لجميع علماء الدين في العالم الإسلامي ، وإلى جميع المؤمنين الذي يرغبون تحقيق الأهداف الإسلامية : إن يضعوا في طليعة واجباتهم ، الوقوف إلى جانب المحرومين والظلومين وتبني قضاياهم ، حسب ظروف بلادهم ، وأن يناضلوا من أجل تحقيق العدالة مهما كلفهم ذلك من ثمن وتضحيات .
2- مناشدة الحكومات في العالم الإسلامي ، ضمن رسالة مفصلة ، أن يعتبروا هذه المرحلة من تاريخهم ، وبعد أن استقلت بلادهم مرحلة البناء الداخلي ، ووقت إسعاد المحرومين بواسطة المشاريع التي تحيق ذلك .
3- مناشدة الحكومات التي تلتقي في المؤتمر العام للدول الإسلامية وضع مشاريع لتنمية المناطق والطبقات المحرومة ، وإصدار قوانين لتحسين أوضاع العمال ، والخبراء ، والمهاجرين،الذين يعيشون في بلادهم ووضع تشريعات خاصة بالمسائل الجمركية ، وقضايا التصدير والاستيراد، بحيث تحقق مزايد من العدالة بين الشعوب المسلمة .
4- وضع دراسة كاملة عن العدالة الاقتصادية والاجتماعية في الإسلام وأهميتها وموقعها في الدين ثم تعميمها بواسطة الإعلام والكتب المدرسية ، وبوجه خاص بواسطة الجامعات المعنية بالقضايا الاجتماعية والمعاهد الدينية …
(من محاضرات الملتقى التاسع للفكر الإسلامي – الجزائر – تلمسان 1-15-رجب 1395 هـ).