ان كل حبة تراب في لبنان، ولا سيما في جنوبه الأبي، ارض ابا ذر الغفاري، مجبولة بدماء الشهداء، آلاف الشهداء الابرياء من اطفال ونساء وشيوخ ورجال عشقوا الشهادة فأقبلوا على الموت بقلب ضاحك واعتناق للحرية.
حرية ارضهم من محتل غاصب قتل ودمر وابكى العيون الى ان جاء يوم وانتهت فيه اسطورة الجيش الذي لا يقهر وانسحب الجيش الصهيوني الغازي من ارض عامل الطاهرة بعد ان قضى على جزء كبير من ارضنا وتراثنا وشبابنا واحلامنا. لكنه لم يستطع ولن يستطيع ان يطمس تاريخنا او يقتلع هذا الكره المتجذر له في ذاكرتنا.
آذار الفخر والمقاومة آذار هو شهر محمد سعد وخليل جرادي... هو شهر معركة، ام القرى... هو شهر الزرارية وعلي حسين حجازي... هو شهر الاوزاعي والكرامة... هو شهر العباسية وكونين والنبطية... وكفى آذار فخراً انه في الخامس عشر منه وفي عام 1928 ولد حفيد المصطفى وشبل المرتضى. في الخامس عشر من آذار عام 1928 بزغت شمس الحرية وهل قمر، هل بدر من نوع آخر. في الخامس عشر من آذار عام 1928، ولد سماحة الامام القائد المغيب السيد موسى الصدر فأصبح للعالم معنى آخر، للحرية معنى آخر، وللدين معنى آخر وللشهادة طعم حلو. اصبحت الشهادة تعشق والحرية تعتنق. وكان آذار يفتخر ويتباهى بين الشهور. الى ان جاء آب، وغابت شمس الحرية. واصبح آب يخجل من آذار. وما زال آب يخجل من آذار. وما زلنا في الليالي المظلمة، نفتقد البدر، نفتقد النور، نفتقد الحرية. ما زلنا في كل آذار، كما في كل آب، كما في كل يوم، نفتقدك يا سماحة الامام، ايها القائد العظيم، يا حفيد المصطفى، ويا شبل المرتضى. وابى آذار سيدي الا ان يجعلك فخوراً به، فكان عرساً متواصلاً للشهادة والدماء. ربما ان اردنا ان نؤرخ العمليات الاستشهادية والمجازر الاسرائيلية وندون عدد ضحايا الغدر والعدوان والهمجية الصهيونية لملأنا آلاف الكتب وصنعنا مئات الافلام. الا انه من حق الجيل الجديد الذي لم يعش في تلك الفترة، ان يعلم ما حصل، ان يفخر بتاريخ اجداده. ومن حق من عاش في تلك المرحلة ان يتذكر. ومن واجبنا ان نذكر من نسي او اراد ان ينسى. ان تاريخ الجنوب المناضل سِلب وشُوِّه وُضيِّع، وقُرأ بطريقة ثانية مختلفة كل الاختلاف وبعيدة كل البعد عن الحقيقة. هذه الحقيقة التي نضعها نحن على صدورنا وساماً. هذه الحقيقة التي تنبض في داخل كل منا وتجعله ينتفض بفخر وبصوت صادح يصل الى السماء انا جنوبي، انا عاملي، انا حيدري، انا حركي، انا رسالي، انا صدري. }} آذار عرس الشهادة }} ويحفل شهر آذار بأعراس الشهادة. كل يوم يمر يسطر معه نضالاً وصموداً ودماء. في الخامس عشر من آذار من العام 1978، وخلال الاجتياح الاسرائيلي الغاصب على لبنان، اغارت الطائرات الاسرائيلية على المساكن الشعبية، منطقة الاوزاعي في الضاحية الجنوبية لبيروت، واستشهد جراء هذا الاعتداء 26 مواطناً وجرح 20 آخرين. وفي النهار ذاته، سحقت دبابة اسرائيلية سيارة المواطن درويش درويش في بلدة كونين فاستشهد مع خمسة من افراد عائلته. وتواصل عرس الدم ذلك النهار، وتحاشى اهالي بلدة العباسية- قضاء- صور القصف الوحشي الاسرائيلي واحتموا في مسجد البلدة فأغارت فوقه الطائرات الاسرائيلية وهدمته فوق رؤوس من فيه فاستشهد 80 مواطناً. في السابع عشر من آذار، وفي العام نفسه، استشهد 17 مواطناً جنوبياً على طريق عام عدلون عندما كانوا يفرّون بسياراتهم الى بيروت. فرّوا من القصف الاسرائيلي، هربوا من تبنين وخربة سلم، فاستشهدوا في عدلون بعد ما طالتهم يد الغدر الصهيوني هناك. وبعد قصف ليلي متواصل، قامت القوات الاسرائيلية وعملائها بدخول بلدة الخيام الجنوبية وجمع مواطنيها الصامدين الذين ابوا ان يتركوها واطلقت الهمجية الصهيونية نيرانها على ابناء البلدة فاستشهد مائة شخص في ليلة واحدة. وفي السابع والعشرين من آذار عام 1984، قصفت الدبابات والمروحيات الاسرائيلية بلدة جبشيت الجنوبية فاستشهد سبعة مواطنين واصيب عشرة آخرون. وفي الحادي والعشرين من آذار عام 1985، اقتحمت اربعون آلية عسكرية اسرائيلية بلدة حومين التحتا وعمد عناصر الميليشيا الصهيونية الى جمع الاهالي في مدرسة القرية ونسفها فسقط عشرون شهيداً وجرح العشرات. وفي الحادي والعشرين من آذار عام 1994، قصفت القوات الصهيونية المعادية احياء عدة في مدينة النبطية واصابت احدى قذائفها الحاقدة باصاً مدرسياً يقل اولاد عائدين من مدارسهم محملين بهدايا عيد الام فحملوا لامهاتهم جثث محروقة حيث سقط اربعة شهداء وجرح عشرة معظمهم من الاطفال. وفي الحادي عشر من آذار عام 1985، وبعد قصف عنيف للبلدة، داهمت القوات العسكرية المعززة بحوالي مائة آلية عسكرية، بلدة الزرارية الجنوبية واطلقت النار على كل من تحرك امامها فاستشهد في هذه المواجهة الشهيد القائد علي حسين حجازي وهو من مواليد الخرايب عام 1964. كما اختفى يومها احد ابرز قادة المقاومة وهو الشهيد نعمة هاشم وترددت اقاويل كثيرة حول كيفية استشهاده حيث ذكر بعض اهل القرية ان القوات الاسرائيلية ربطته الى شجرة واطلقت عليه قذيفة مدفعية فتناثرت جثته اشلاء. }} معركة أم القرى }} وتبقى ''معركة'' ام القرى. وتبقى علاقتها بآذار مختلفة عن غيرها. ففي صبيحة الرابع من آذار من العام 1985 تفجر الدم القاني ينابيعاً في ''معركة'' وازهرت الشهادة وروداً انبعث رحيقها وعبق اريجها في كافة انحاء الوطن. في الرابع من آذار 1985، انتفضت معركة وابت الا ان تكون ام القرى. في الرابع من آذار، صاح محمد سعد من حسينية معركة ''لبيك يا حسين'' وفاضت روحه الى الخلد. فاستشهد باستشهاده نصف الجنوب وبقي النصف الآخر. في الرابع من آذار، ابى خليل جرادي ان يتخلى عن رفيق دربه، وابى ان يتمتع محمد سعد وحده بفخر الشهادة التي عشقها وطالما تمناها، فاعتنقها معه محمد سعد وخليل جرادي لم يسقطا شهيدين بل فاضت روحهما السامية الى باريها وامتزج دمهما الطاهر بتراب معركة المقدس وبقيا اسطورة للشهادة. }} خليل جرادي }} خليل جرادي، بطل من ابطال المقاومة واحد ابرز كوادر حركة أمل. ولد في معركة في الثامن والعشرين من شهر حزيران عام 1958. تربى على الايمان منذ صغره. كان يجلس قرب والده عندما كان الاخير يصلي ويذهب معه الى مجالس عاشوراء فيغضب ويتأثر لمظلومية ابي عبد الله (ع) فأقسم من هناك ان يستشهد فداء للحسين (ع) وكان له ما اراد. نال الشهادة المتوسطة عام 1972 في مدرسة البلدة وانتقل بعدها الى مهنية صيدا ونال شهادة الامتياز الفني في العلوم التجارية عام 1977. كان ثورياً منذ صغره، وكان يدعو الشباب في المهنية حيث يتابع دراسته، الى العودة الى دينهم والاعراض عن الافكار الهدامة التي كانت سائدة آنذاك واستطاع ان يجمع حوله عدداً غير قليل من الطلاب وصل الى 400 طالب من اصل 650 طالباً مسجلاً في المهنية وكان يؤمهم للصلاة في احدى زوايا الملعب لعدم وجود مصلى. ولم يردع خليل جرادي اقفال الطريق الساحلية من قبل الاحزاب والقوى الفلسطينية من الوصول الى معركة. ولم يمنعه الطقس البارد والممطر من عبور الجبال سيراً على الاقدام حتى وصل الى بلدته. ومنذ ذلك اليوم قطع دراسته وتفرغ للعمل الجهادي دفاعاً عن اهله وارضه فخاض المعركة تلو المعركة بحماس وتصميم وكان موجهاً وقائداً ومرشداً وواعظاً. كان اول الملتحقين في صفوف حركة أمل عندما اعلن الامام الصدر ولادتها وكان حينها في الخامسة عشر من عمره. اسس، مع رفيق دربه محمد سعد، خلية في ''معركة'' من سبعة شباب تتراوح اعمارهم بين الخامسة عشر والسادسة عشر من العمر حتى اصبحت معركة كلها، مع الوقت، خلية حركية التزمت نهج الامام الصدر ولا تزال. }} محمد سعد }} في الرابع من آذار، كان عرس محمد سعد. لكنه عقد قراناً ابدياً مع فكرة الدم الذي يعيش بقضية ويموت بقضية قبل استشهاده بأعوام. محمد سعد، لم يترك الجنوب يوماً. كيف يتركه وهو القائل ''من يترك الجنوب فهو خائن''. محمد سعد لم يقبل المساومة يوماً، كيف يساوم وهو القائل ''بنادقنا لا تعرف الثرثرة حتى تساوم''. ولد محمد سعد في بلدة معركة عام 1956 وهو الثاني بين عشرة اولاد الى جانب والديه. انهى دراسة المرحلة الابتدائية في مدرسة القرية والتحق بعدها بمهنية جبل عامل التي اسسها سماحة الامام المغيب القائد السيد موسى الصدر حيث تابع دراسته بنجاح. كان يساعد والده في اعالة العائلة فيعمل بعد الدوام في معمل لتصنيع البلاط والرخام في صور. عام 1971، انتقل الى مهنية النبطية ليكمل دراسته فتعرف الى الدكتور مصطفى شمران الذي كان يميزه عن باقي زملائه ويتوسم فيه خيراً. انتسب محمد سعد الى حركة أمل منذ انطلاقتها ولم تمض فترة حتى اصبح من كوادرها الذين يعتمد عليهم. وخلال الغزو الصهيوني عام 1982، كان محمد سعد يشحذ طاقات اهل البلدة لمواجهة العدو الصهيوني وكان يعتمد عليهم في نصب الكمائن وزرع العبوات واستطاع تحريك عمل المقاومة في معركة والقرى المجاورة. وقف محمد سعد امام جمع من ابناء قريته قائلاً:''انا وحدي سأقاتل اسرائيل، من يريد ان يقاتل معي، فليبق ومن يريد الذهاب الى بيروت مع الذين ذهبوا، فليرحل''. استطاع ان يحول منطقة صور الى بركان مقاوم. كان محمد سعد ''زنبرك'' المقاومة وعملياتها حيث كان مخططاً وموجهاً ومشاركاً في معظم العمليات آنذاك. اصر منذ بداية عمله الجهادي على تعميق معنى المقاومة وكان يقول ''ان عودة الانسان الجنوبي الى داخل الجنوب تعني عودة الجندي الاسرائيلي الى خارج الجنوب''. وصفته وكالة الصحافة الفرنسية وهو ابن الـ27 عاماً بأنه من اكثر زعامات المقاومة الوطنية اللبنانية وحركة أمل نشاطاً في الجنوب''. وكتبت عنه صحيفة ''اللواء'' اللبنانية انه احد ابرز قياديي حركة أمل وواحد من ابرز المطلوبين من قبل المخابرات الاسرائيلية على لائحة القتل''. وذكرت صحيفة ''الكفاح العربي'' انه كان المطلوب الاول على لائحة ''الموساد''. ووصفه مراسل وكالة رويترز انه ''الزعيم المحلي للثوار'' كان والده يطلب من اصدقائه ان يقنعوه بالزواج، فكان محمد سعد يرد عليه قائلاً ''انت الآن غير قادر على تربية اولادك، فكيف ستربي اولادي من بعد موتي''. كان محمد سعد قمة المقاومة في لبنان وحاز على قمة الشهادة. }} الجريمة الصهيونية ... والشهادة الحسينية }} في الثاني من آذار عام 1985، اقتحمت قوة اسرائيلية بلدة ''معركة'' وعملت على تجميع الناس في المدارس وحاصرتهم بالدبابات وكان الجنود الاسرائيليون يكثرون الدخول والخروج الى الحسينية، وبعد انسحاب هذه القوة، قام محمد سعد وخليل جرادي بتفتيش الحسينية الا انهما لم يكتشفا مكان المتفجرات داخل اطراف المكتب. وفي الرابع من آذار عام 1985، تكاثر المواطنون في الساحة العامة القريبة من الحسينية واجتمع سعد وجرادي ومسؤول لجنة الاغاثة في صور احمد رومية من اجل توزيع المساعدات على الناس. وفي الساعة العاشرة الا ربعاً، هز انفجار مدو بلدة معركة والقرى المجاورة وانهار مبنى الحسينية على من فيه واستشهد محمد سعد وخليل جرادي واحمد رومية والدكتور خليل عطوي وحسين شعيتلي وعلي عباس وعلي عبد الحسنه غندور ومحمد السيد وحسين خليل واحمد حسين فواز ومحاسن حيدر وطفلها وعباس يوسف الزين كما جرح العشرات من شظايا الانفجار. }} الرد المقاوم }} واثر مجزرة ''معركة''، جالت السيارات بمكبرات الصوت في صور تدعو للتبرع بالدم للجرحى، فسارع المئات الى مستشفى جبل عامل الا ان الجنود الاسرائيليين كانوا قد سبقوهم الى هناك ومنعوهم من التبرع بالدم للمصابين فتدافع الناس ورشقوا الاسرائيليين بالحجارة وضربوهم بالعصي. عندها طلب الصهاينة المساعدة وحضرت الى امام المستشفى سبع آليات وسيارتا جيب مليئتان بالجنود وقام باعتقال خمسة وعشرين شخصاً. وكان رد المقاومة على هذه المجزرة 14 عملية ضد مواقع الاحتلال. اختصر محمد سعد مسيرة الجهاد وانتقل بشهادته الى مصافي الخالدين. واختصر آذار تاريخ المقاومة والنضال والشهادة وكان وساماً على صدر الشهور. خلد آذار بأسابيعه وايامه وساعاته ودقائقه وثوانيه مئات الشهداء والجرحى والابطال. مبارك لك آذار اعراس الشهادة. مبارك لك ولادة موسى الصدر. مبارك لك استشهاد سعد وجرادي. عهداً لك آذار ان نجعل كل يوم من ايامك عيداً خالداً وعبرة لمن اعتبر وذكرى لكل من ينسى، كي لا تنسى ولا ننسى...
عن جريده العواصف