كلمة لسماحة الإمام السيد موسى الصدر في بيت شاما بذكرى استشهاد أمير المؤمنين "ع" (4/9/1977)
يُسعدني ويشرّفني، بالإضافة الى ما يخفّف آلامي، أن أشارك في هذا اللقاء الفريد من نوعه، احتفال باستشهاد الإمام أمير المؤمنين (ع) في شهر رمضان، والمحتوى والثمرة والنتيجة من الاحتفال إكمال مشروع مدرسة، تحمّل المسؤولية في ظرف تخلّى عنها المسؤولون، والذين يقومون بالعمل أساتذة ورفاقهم وأهلهم، أولئك الذين كانوا منذ فترة قصيرة فقط يعتبرون الثقافة والأستذة والتعليم شرفاً وأرستقراطية جديدة وترفّعاً وطبقية تعزلهم عن الناس وتفرش لهم عرشاً من الثقافة يتفوّقون به على أبناء أمتّهم، فإذا بهم اليوم يشمّرون عن ساعة الجدّ ويخوضون معركة البناء بالكلمة وباللبنة، فيعمّرون وينجزوا مشروعهم، فإذا بالثقافة اليتيمة تصبح ثقافة أصيلة متأصلة مرتبطة بمصير أمتّهم وشعبهم لأنها تحصل مباشرةً وتبارك بأيديهم دون أن تقوم بدور الأمر..
إحتفال فريد بنوعه لكثرة ما بين استشهاد الإمام والاحتفال بذكراه وبين بناء المدرسة على يد المثقفين من تشابه..
فقد ورد في الحديث الشريف عن أحد أصحاب الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق أنه كان في بيته، وكان يداوي وضع الحائط وبناء البيت، فدخل عليه أحد أصحابه، ولعلكم تذكرون أننا منذ فترة قريبة كنّا نعمّر البيوت والحيطان بالطين، نضع التراب والماء ونخلط بينهما، وأنا أتذكّر في بداية عمري أنّ أحد أعمال المعلّمين في البناء أنهم يخلطون ويجبلون بالأقدام بين التراب والماء الى أن يصير أكثر تماسكاً وقوة، عندها يصبح البناء أشد نظاماً ودواماً، في هذا الجو (جبْل الطين بدل الجبالة) وجد الصحابي أنّ الصادق (ع) الذي يتحدى وحده جميع طاقات عصره وما قبله بأفكاره وكلامه، وملأ الدنيا علماً وثقافة حتى أنّ المذهب سُمي بإسمه (المذهب الجعفري) هذا الإمام وجده الصحابي يجبل التربة والماء بأقدامه والعرق يتصبب من وجهه، فاستغرب الرجل وقال له: سيدي أين الغلمان؟، بطبيعة الحال اندهش من الإمام لأنه بدا له أنه يقوم بعمل بعيد عن الرسالة والوقار، والعرق يتصبب من وجهه، وهو يستمر في الجبْل، فيقول له: سيدي أين الغلمان؟، الإمام يدرك استغراب الرجل بل استهجانه، فقال له: يا هذا، إن أنا عملتُ بيدي فقد عمل من هو خير منّي ومن أبي، أمير المؤمنين وأجدادي وآبائي كلهم يعملون باليد..
ويعيد لذاكرة الصحابي ما يعلنه الإمام الباقر بحديث مشابه في الصحراء في الصيف.. كان يفلح، فاقترب منه الصوفي المعروف بإبن المنتذر، وقال له: سيدي ماذا رأيت لولا لقيت ربك على مثل هذه الحال؟ وبعبارة أخرى: سيدي، إنّ هذا حرص على الدنيا، فإذا متّ في هذه الحال ماذا تقول لربك؟ أني كنت أشتغل بالدنيا؟ فقال له الباقر (ع): لا يا ابن المنتذر، إن أنا لقيت ربي فأنا ألاقيه وأنا أعبده، وإنما أخشى أن ألاقيه وأنا أعصيه..
هذه عبادة، إذاً هذا الطريق طريق علي (الذي يؤكده الصادق) أنه قام يعمل باليد، فسلوك الإمام (سيما في حقل الزراعة) معروف، لقد زرع وغرس ألوفاً من النخيل، وحفر آباراً وقنوات، وأسّس المزارع، ومن المزارع التي أسّسها الإمام بالمشاركة مع الأمير الحبشي "أبي ميزر" ومزرعة "الدغيدغة" (حفرها الإمام بيديه)..
إذاً، الإمام، ذلك الإمام الكبير كان أخبر بطريق السماء من طريق الأرض، كان يعمل بيده، فمن هو أولى منكم يا أخوتي؟، يا أيها الأساتذة في هذه البلدة، أن تحفروا بأيديكم الأرض، وتجبلوا الباطون، وتضعوا التربة والماء والمداميك، وتعمروا المدرسة حتى تعمروا غداً بكلماتكم أيضاً أبناء أمتكم، وعند ذلك: من هو أكثر منكم إخلاصاً لأبناء هذه الأمة؟..
في الواقع إنّ مشاهداتنا ومعلوماتنا تؤكد أن المثقفين في أمتنا سابقاً والمثقفون في عالمنا المعاصر اليوم لم يكونوا يوماً بعيدين عن الحياة العامة، فهم اشتركوا ويشتركون في الحياة العامة، أما الإنسان المثقف الذي يكتفي بإلقاء الوعظ وإلقاء الدرس ثم يعتبر أنّ ذمّته وأن واجبه وأنّ مسؤوليته قد أدّاها ثم يعود الى بيته فينتقد ويحلّل ويفحص في الرؤيا الدولية والرؤيا الغربية والرؤيا اللبنانية والرؤية المستقبلية والتحليل للماضي.. فهو لا يجيد التعبير الحقيقي في الثقافة، لأنها ثقافة غير نابعة من مصلحة أمته، ولأنها ثقافة لو كانت نابعة من مصلحة أمّته لكان حبّه وحرصه وحماسه يدعوه الى أن يتحرك مع الناس مع البناء مع التأسيس..
إذاً: نحن نجد الرابط العميق بين احتفال أبناء بيت شاما وأساتذة بيت شاما ببناء المدرسة، وبين الاتصال باستشهاد علي بن أبي طالب (ع)، لأن هذا هو طريق الإمام وهذا هو سلوكه..
أما العلم الذي كان يُبعد المثقّفين بالأمس القريب عن حياة الناس فهو تماماً كالعلم الذي كان يُبعد مشايخكم في الأمس القريب عن حياتكم العامة، كان يكتفي أن يقول وأن يدرس وأن يتعلم وأن يتقن العربية الفصحى ثم يجلس بعيداً عن حياة الناس، هذا النوع من المثقّفين نعتبر احتفالنا اليوم نهاية لفصلهم، لقد كان العالِم الديني يعتبر أنّ مهمته قد انتهت بتعلّم الرواية والحديث وإلقاء الخطبة والكلمة ثم الانتقال للنقد والنصيحة، الى أن يقف على المنبر فيرى جميع الناس دون استثناء مهتمين، فيحدّثهم من على المنبر، أما المشاركة في البناء فلم تكن عند بعضهم..
الإمام علي يرفض هذا المثقّف كما كان يرفض ذلك الشيخ سواء بسواء، حياته وثقافته من صميم حياة الناس وثقافة الناس.. ونحن ننتمي إليه وندعى باسمه، ونحن نعتزّ بأننا نسلك سبيله وحياته، ماذا تعلّمنا؟ هل تعلّمنا التقوى السلبية؟ هل تعلّمنا التفوّق على الناس؟ هل تعلّمنا محاكمة الناس؟ كلا.. الإمام لا يعلّمنا هكذا، بالعكس، سلوكه رسالة مباشرة في البناء، سلوكه تحمّل المسؤولية، مزج العلم بالعمل، الدخول في صميم حقوق الأمة وتحويلها الى غد أفضل، هذا هو علي، أما الذي لا يعمل، المثقف الذي لا يعمل ولا يريد أن يعمل ولا بد أن ينتقد حتى يملأ فراغه وحتى يحلّ محلّ عمله شيئاً ولو كان الكذب (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم)..
إحدى محن أمتنا أننا نتكلم بحرارة بالغة، بدقّة متناهية، بتحليل دقيق، هكذا نكون والحمد لله أدّينا واجبنا بشهر رمضان، تكلّمنا، شجّعنا الناس، انتقدنا.. أبداً، ليس هذا هو الواجب، منذ مدة كنا نحكي مع أحد الرفاق في فضل هذه الآية الكريمة (تتجافى جنوبهم) في وصف الصالحين من عباد الله وفي وصف المخلصين العابدين.. يصف القرآن الكريم أولئك الذين تتجافى جنوبهم (يعني جنباتهم)، أضلاعهم لا تستأنس الفراش في الليل، فُسّرت الآية أنهم أولئك الذين يقومون من الفراش لكي يصلّوا صلاة الليل، لا شك أنّ صلاة الليل من أشرف العبادات
وأفضلها، إنّ هذه تذكرة لمن شاء أن يتخذ الى ربه سبيلا، أيضاً الى جانب صلاة الليل أولئك الذين يحيون لياليهم لخدمة الناس، أولئك الذين يركضون أطراف الليل وآناء النهار لخدمة الناس، أولئك الذين يسعون ويحرثون ويعملون ويذهبون ويمارسون الأعمال لخدمة أبنائهم وأبناء أمتهم..
وأنتم يا أيها الشباب، يا أبناء هذا البلد الحبيب، أنتم تنفّذون هذه الخطة وتستلهمون، فلكم شرف الاقتداء، ولكم شرف القدوة بغيركم من أبناء المناطق الأخرى، ولكم فضل واضح في النقطة الأولى، في اللبنة الأولى، لا في بناء مدرسة هذا البلد فحسب، بل في تعليم أطراف هذا البلد والقرى المجاورة (..)..
الناس في لبنان أنعم عليهم ربنا بموهبة اللسان، واللبناني ذكي، يعرف ويسمع ويقرأ، وبالتالي يرى أكثر، ومع الأسف ترى أنّ الكثير من الناس العاديين يكتفون بالنقد، نجلس معهم فينتقدون الدولة والسياسيين والمسؤولين ورجال الدين والشخصيات وغيرهم، ولكن هل أنت قمت بواجبك يا أخي؟ هل كان بإمكانك أنت أيضاً أن تعمل غير ما عملت؟ هذا هو السؤال.. نحن علينا أن نتحمل واجباتنا ومسؤولياتنا، والسبب أنّ بلادنا ووطننا وأمتنا بحاجة ملحّة هذا اليوم الى استنفار كافة الطاقات والقوى..
لا يكفي أن نجلس ونطلب من الجيش أو الأمن الداخلي أن يحفظوا الأمن، لأنّ الأمن أكثر تدهوراً وسقوطاً من أن يُحفظ من قوة الردع أو بواسطة الجيش اللبناني أو الأمن الداخلي..
الأمن بحاجة الى سهر كل فرد وموقف كل فرد، والدمار أيضاً أكثر بكثير من أن نكتفي بمشاريع وزارة النافعة والبلديات والاختصاصات المعنية، كل فرد عليه أن يعمر، وهكذا علينا المشاركة في حياة الناس، ونرجو أن يكون هذا اليوم مباركاً، فمعنى البركة أنّ هذا يُنتج، وغداً إنشاء الله نسمع أنّ أبناء تلك القرى وأساتذتهم حملوا الرفوش وشيخهم معهم وبدأوا بالعمل والبناء، هذا هو مفهوم لقاء استشهاد الإمام مع بناء المدرسة، ولا شك أنّ هذا البُعد الداخلي يحتاج الى بعد عام خارج القرية، فلنكن كذلك لأننا في ظروف عامة قاسية لا يمكننا أن نطيل التحدث عنها، والصيام يبدو أنه أقوى منا..
إذاً: بُعد محلّي نضعه أمامنا في احتفالنا بذكرى الإمام وإقامة المدرسة، وبُعد وطني عام في هذه الظروف أن نلتقي في بيت شاما، وبيت شاما مثال الوحدة الوطنية ومثال التعايش الإسلامي-المسيحي، بمدرستها تتخطى هذه الحدود، بيت شاما تقول للقرى الأخرى وللفئات الأخرى: بدل أن تتحدّوا بعضكم بعضاً، بدل أن تتكبروا بعضكم على بعض، بدل هذه الأشياء فلنتخطى هذه الأمور ولنوجّه هذه الطاقات العظيمة.. هذه الطاقات البشرية الكبرى، نوجّهها الى بناء المدرسة، الى بناء الوطن..
في هذا العصر، عصر الأوطان والقوميات، نلجأ الى التحديات، هذه انتكاسة حضارية في مجتمعنا الحالي..
إخواني: اليوم بسبب ظروف متشنّجة في المنطقة أو في البلد، اليوم بسبب اعتداءات وطغيان إسرائيل، اليوم بسبب بعض المشاكل الداخلية في العالم العربي، اليوم بسبب ظروف محلية في لبنان.. بسبب كل ذلك اختلت التوازنات، إذا كان في فرصة زمنية معيّنة أنت تمكنت أن تتحداني وتخلق لي مضاعفات، أو أنا تمكنت أن أخلق لك في مكان ما تحديات ومضاعفات، هل هذا معناه أنه انتهت الأزمة وانتهت الافتراءات؟..
إذاً: نحن نعيش في ظروف قاسية، أي موقف لا يساهم في بناء الوطن ولا يعوّض الحضارات الوطنية الإيجابية يُعتبر نكسة، يعتبر سكوتاً وتراجعاً، فالتجربة التي عشناها منذ سنتين في الحرب تكفي لكي نعرف أن الانتصار بين الفئات المتصارعة في وطننا مستحيل، المنطقة لا تسمح، والعالم لا يسمح بانتصار أي فئة..
إسرائيل خلال حرب السنتين كانت تراقب الشواطئ عندما كانت الأسلحة تتدفق على شواطئ لبنان لجميع المناطق بدون استثناء، بحساب دقيق صادر عن الكمبيوتر، إذا وجدت إسرائيل أنّ الاختلال في السلاح بين الفئات سيقع فوراً كانت تحجز شحنات السلاح الموجهة الى هذه المنطقة، تحجزها وتوجّهها الى المنطقة الأخرى!
هذه المعلومات ليست من صنع الأوهام، معلومات دقيقة، ولإسرائيل واسطة في البحر، فترى أنّ اللبنانيين يتقاتلون، وانّ الفلسطينيين يتقاتلون، وأنّ في هذه الأرض العربية قتال، وكل فئة من الفئات لا تصنع خرطوشة واحدة، كلها مستوردة من الخارج، من الخرطوشة حتى المدفع، إذاً: إسرائيل واقفة في البحر لمراقبتنا، تحاصر، وعندما ترى أنّ هذه المنطقة (المنطقة الشرقية مثلاً) أصبحت الأسلحة فيها أكثر من المنطقة الأخرى، (عندها) تحجز السلاح وتوجّهه الى المنطقة الأخرى، وعندما يصبح السلاح في منطقة أكثر منه في الثانية تخشى إسرائيل من تبدّل التوازن، لماذا؟ هل تريد إسرائيل انتصار المسيحيين في هذا البلد؟ هل تريد إسرائيل انتصار المسلمين في هذا البلد؟ أبداً، إسرائيل تتمنى أن تستمر حرب لبنان سنتين وخمس وست وعشر.. وفي تقرير لوزير خارجية إسرائيل يقول: أفضل السنوات التي مرّت على إسرائيل منذ تأسيسها حتى الآن كانت في سنتَي 75 و76 لأنه لم يقع أي قتيل إسرائيلي أمام أعداء إسرائيل..
طبعاً، ماذا تريد إسرائيل أكثر من هذا؟ بدل أن تؤمّن إسرائيل نفسها بسلاحها وشبابها ونفقاتها وموازناتها وبإعطاء أموال وبتقديم ضحايا من الشباب.. بدل كل ذلك تعمل الحرب في لبنان، والحرب بين كل اللبنانيين، وكل الفلسطينيين، وكل سوريا، وكل مصر، وكل الدنيا.. ماذا تريد إسرائيل أفضل من هذا؟..
إذاً: الانتصار في هذا البلد مستحيل، فلا تفكّروا أنّ الذي يساعد المسيحيين هو صديق المسيحيين، أو الذي يدفع السلاح للمسلمين هو صديق المسلمين، أبداً.. أعداؤهم قد يعطونهم سلاحاً لكي تستمر الحرب..
أحد الأصدقاء قال أنه وجد الصحف الصهيونية في أوروبا وأميركا.. في العالم.. تركّز وتسعى لاستمرار الحرب السياسية والكلامية والعسكرية بين السوريين والفلسطينيين، لماذا؟ لأنّ سوريا والمقاومة قوة واحدة في الشرق الأوسط، وهذا واضح في تقرير رئيس وزراء العدو سابقاً..
إذاً: الإعلام العالمي عندما اتخذ هذا الموقف سابقاً ليس حباً في الناس الذين كان يدافع عنهم، بل رغبةً في استمرار القتال.. إذاً: الانتصار في هذا البلد مستحيل، لأنه انتصار مؤقت.. انتصار محدود..
نحن نعرف أيها الاخوة أنّ الإنسان مهما كان، ووضع لبنان مهما تغير، والمنطقة مهما تدهورت، فهناك قدر في التاريخ، هناك مسائل أساسية في التاريخ، هناك حقائق ثابتة في التاريخ: أنّ آلاف السنوات من التعايش لو كان من الممكن الانتصار فيها لانتصرت بعض الفئات وانتهت الأخرى..
أخيراً أشكركم وأتمنى أن ينتقل مشروعكم الى بلدة أخرى وأن يعم سائر القرى لنبني الوطن ونبني المواطن من جديد.