إن من القضايا التي نستفيديها من ذكر قصص الذين تشرفوا باللقاء، هي العبرة في مسألة التفاتة صاحب الأمر والزمان (عج) لبعض محبيه.. وعلينا أن نلتفت إلى القواعد التي ذكرناها سابقا، وهي أن لكل قضية روح وجوهر، فعلينا أن نتأسى بتلك الجوهرة.. فالإمام مظهر حكمة الله تبارك وتعالى.. فإذا كان لقمان الحكيم، قد أوتي الحكمة.. فكيف بمن هو خاتم الأوصياء؟.. وكيف بمن سيأتي المسيح بن مريم ليصلي خلفه في بيت المقدس؟.. فهذا مظهر تجلي حكمة الله تعالى في الأرض.
إن الإمام (ع) مع انشغالاته وخلواته مع ربه، فهو كجده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وله عبارة بليغة ومؤثرة حيث يقول: (لي مع الله حالات، لا يحتملها ملكٌ مقرّبٌ، ولا نبيٌّ مرسلٌ).. إن لكل نبي خلوته مع الله، ولكل معصوم كذلك.. وكذلك الإمام (ع) له ساعات خلوة مع رب العالمين، كجده سيد المرسلين.. إذ يناجي ربه في جوف الليل، وإذا أراد أن يلتفت إلى ما سوى الله من البشر، فلا بد من وجود عذرٍ ومبررٍ وقابليةٍ.. إما حب شديد، أو ورطة بليغة، أو استغاثة صادقة، أو يقين به، واعتقاد راسخ بعناياته في زمن الغيبة.
ومنذ أن غاب (ع) إلى يومنا هذا، إن قضايا التشرف بلا سفارة، من القضايا المتواترة في تاريخ علمائنا، وخصوصا المبرّزين منهم: كالسيد بحر العلوم، والأنصاري، والشيخ المفيد، وغيرهم.. وليس من المهم المواجهة، أي أن تقع عيوننا على طلعته البهية، وإن كان هذا مطلب ندعوه في دعاء العهد: (اللهم!.. أرنا الطلعة الرشيدة، والغرّة الحميدة).. ليس لنا فحسب!.. بل للأمة، أي بمعنى الدعاء بالفرج العاجل.. ولكن من المهم جدا أن يناجي الإنسان ربه، ويستغيث بالإمام بطريقته الخاصة.. فلو جعلَنا الإمام ضمن من يدعو لهم في صلاة الليل بالمغفرة -ولو مرة واحدة- لم يبقَ من ذنوبنا شيء.. ولو أن الإمام صار بناؤه أن يتكفّلنا تكفّل الأيتام، فهل نخشى من الضياع؟.. وهل نخشى من الإنصراف؟.. وهل نخشى من إنفلات زمام الأمور في حياتنا؟..
فلننظر إلى عناية الإمام (ع) بهذا الرجل!.. فقد التقى به -على ما هو النقل- ولكن بهدف تربوي، لا لمجرد اللقاء العابر.. (أخبر الشيخ باقر، عن رجلٍ صادق اللهجة، كان حلاقا، وله أب كبير السن).. إن الابتلاء بالأب كبير السن والمريض، من التكاليف الصعبة: فمن ناحية هناك حق الأبوة والخدمة إلى اللحظات الأخيرة من الحياة.. ومن ناحية فإن النفس قد تتبرم، خاصة إذا كان الأب مقعدا، ويحتاج إلى خدمة مباشرة.. والإنسان في أفضل التقادير، قد يؤدي هذه الخدمة، ولكن على مضض.. وقد يتمنى في أعماق وجوده أن يتخلص من هذه الخدمة، بذهاب أبيه إلى العالم الآخر.
يقول: ( وهو لا يقصر في خدمته، حتى أنه يحمل له الإبريق إلى الخلاء، ويقف ينتظره حتى يخرج، فيأخذه منه، ولا يفارق خدمته إلا ليلة الأربعاء، فإنه يمضي إلى مسجد السهلة، ثم ترك الرواح إلى المسجد، فسألته عن سبب ذلك، فقال: خرجت أربعين أربعاء، فلما كانت الليلة الأخيرة، لم يتيسر لي أن أخرج إلى قريب المغرب، فمشيت وحدي، وصار الليل، وبقيت أمشي حتى بقي ثلث الطريق، وكانت الليلة مقمرة).. إن إنسانا التزم أربعين ليلة، من الطبيعي أنه يتمنى في الليلة الأخيرة أن يحظى بشيء، فيعز عليه ترك تلك الليلة.. فإن له أبا يحتاج إلى عناية، فدار الأمر بين أن يخدم أباه تلك الليلة -ليلة الأربعاء- وبين أن يكمل عمله.. وطبيعي أن يقدّم إكمال العمل على خدمة أبيه، الذي يحتاج إلى رعاية.
يقول: (رأيت أعرابيا على فرسٍ قصدني، فقلت في نفسي: هذا سيسلبني ثيابي، فلما انتهى إليَّ كلّمني بلسان البدو من العرب، وسألني عن مقصدي.. فقلت: مسجد السهلة.. فقال: معك شيء من المأكول؟.. فقلت: لا.. فقال: أدخل يدك في جيبك -هذا نقل بالمعنى- وأما اللفظ "دورك يدك لجيبك" فقلت: ليس فيه شيء، فكرّر عليَّ القول بزجرٍ، حتى أدخلت يدي في جيبي، فوجدت فيه زبيبا، كنت أشتريته لطفلٍ عندي، ونسيته، فبقي في جيبي).. إن هذه علامة أولى: وهي أنه أخبره بما عنده.. أليس عيسى بن مريم (ع) كان يكلّم الناس بما يدّخرون في بيوتهم؟!.. فهذه صفة من صفات الأولياء.
يقول: (ثم قال لي: أوصيك بالعود!.. أوصيك بالعود!..أوصيك بالعود!.. –والعود في لسانهم اسم للأب المسنّ- ثم غاب عن بصري.. فعلمت أنه المهدي (ع) وأنه لا يرضى بمفارقتي لأبي، حتى في ليلة الأربعاء.. فلم أعد).
إن الدرس العملي من هذه القضية، أن الإنسان لا ينبغي أن يستحدث لنفسه طريقة في الحياة، كأن يتخذ وردا ليبلغ إلى مقصوده، أو يعتاد على عملٍ ولا يوازن بين الأمور.. ونحن عندنا في الشريعة باب واسع ومهم، يسمى باب التزاحم: أي هنالك مهم وهنالك أهم.. وهنالك راجح، وهنالك مرجوح.. وهنالك واجب، وهنالك مستحب.. فعندما يرى الشيطان بأنه لا يمكن أن يشغل هذا الإنسان بالحرام، فعندئذ يشغله بما هو دون المطلوب منه؛ فيشغله بالمستحب عن الواجب، ويشغله بالمهم عن الأهم.
إن الإنسان المؤمن المراقب لنفسه، والولي الصالح -لا أهل الدعوى، وأهل الإدعاءات الزائفة- يرى في كل ساعة وظيفة، فليست هنالك وظيفة ثابتة.. -فمثلا- هذه الساعة كنت أمضيها مع أهلي، ولكن هذه الساعة في هذه الليلة، أين أمضيها؟.. فعليَّ أن أفكر، هل راجح الذهاب إلى مجلس، يطلب فيه علم؟.. أو هل الراجح تنفيس كربة مؤمن؟.. أو هل الراجح في تلك الليلة الجلوس إلى أهلي وولدي؟.. أو هل الراجح أن أتصل برحمي؟.. فلا أدري أين هو الراجح؟..
إن على الإنسان أن يتأمل، ويحاول أن يكتشف.. فالمؤمن لا يعتاد شيئا.. "فلكل ظرفٍ تكليف، ولكل يومٍ تكليف".. فهنيئا لمن استيقظ صباحا، ورتّب برنامجه من الصباح إلى المساء!.. فبعد ساعات العمل ما هي التكاليف اللازمة؟.. أين يذهب؟.. وإلى أي مجلس؟.. ومن يصادق؟.. ومن يزور؟.. وماذا يقرأ؟.. وماذا يدعو؟.. فيجعل لنفسه ساعة للمناجاة، وساعة للتعلم، وساعة للتفكر؛ فيحاول فيها أن يفكر فيما يرضي الله تعالى.
فإنْ فكّر وعمل بما وصل إليه، أحبّه الله -ولو كان مخطئا- لأنه فكّر وقلّب الأمور، واكتشف الملاكات بحسب نظره القاصر، ثم رجّح ما هو خير له بنظره.. فهذا الإنسان رأى أنها ليلة الأربعاء، وهو مواظب على هذا الورد المجرّب.. فبشكل طبيعي وتلقائي ومن دون تفكير، قدّم الذهاب إلى مسجد السهلة، على خدمة هذا الوالد المسكين.. ولكن يأتيه التنبيه أنه عليك بالأب هذه الساعة!.. وإن كانت ليلة حاسمة، وساعة ذهبية، إلا أن خدمة الوالدين مع كبر سنهما، مقدمٌ على أية عبادة أخرى، ليست بواجبة عليك.