ليت أشياخي ببدر شهدوا
فأهلوا واستهلوا فرحا
قد قتلنا القرم من ساداتهم
لعبت هاشم بالملك فلا
لست من خندف إن لم انتقم
جزع الخزرج من وقع الأسل
ثم قالوا يا يزيد لا تشل
وعدلناه ببدر فاعتدل
خبر جاء ولا وحي نزل
من بني أحمد ما كان فعل
ثم دعا بقضيب خيزران ينكت به ثنايا الحسين (ع) ولما رأته زينب نادت بصوت حزين يقرح الكبد ويوهي الجلد ياحسيناه ياحبيب جده رسول الله وياثمرة فؤاد الزهراء البتول ياابن بنت المصطفى ياابن علي المرتضى ياابن مكة ومنى فضج المجلس بالبكاء ويزيد ساكت وهو بذاك شامت. فقامت زينب بنت علي (ع) وقالت:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله وآله أجمعين صدق الله حيث يقول {ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ} أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا على الله هواناً وبك على الله كرامة وأن ذلك لِعِـظَمِ خطرك عنده فشمخت بأنفك ونظرت في عِطْـفِك[1] جذلان مسرورا فرأيت الدنيا لك مستوسقة[2] والأمور متسقة[3] حين صفا لك ملكنا وسلطاننا؟ فمهلاً مهلاً أنسيت قوله تعالى {ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً ولَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإمائك وسوقك بنات رسول الله (ص) سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تَحْدوا بهن الأعداء من بلد إلى بلد ويستشرفهن[4] أهل المناهل[5] والمناقل ويتصفح وجوههن القريب والبعيد والدني والشريف ليس معهن من رجالهن ولي ولا من حماتهن حمي ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم
فأهلوا واستهلوا فرحا ثم قالوا يا يزيد لا تشل
منحنيا على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك؟ وكيف لا تقول ذلك وقد نكأتَ القرحة[6] واستأصلتَ الشأفة بإراقتك دماء الذرية الطاهرة ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم فلتَـرِدَنَّ وشيكا موردهم ولتودن أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت فوالله ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمك ولتَـرِدَنَّ على رسول الله (ص) بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته حيث يجمع الله شملهم ويلم شعثهم ويأخذ بحقهم من أعدائهم {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وحسبك بالله حاكما وبمحمد (ص) خصيما وبجبرائيل ظهيرا وسيعلم من بوأك ومكنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلا وأنكم شر مكانا وأضعف جندا. ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك إني لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك[7] وأستكثر توبيخك لكن العيون عبرى والصدور حرى ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء فهذه الأيدي تنطف[8] من دمائنا والأفواه تتحلب[9] من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل[10] وتعفرها أمهات الفراعل[11]. ولئن اتخذتنا مغنما لتجدنا وشيكا مغرما حين لا تجد إلا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد فإلى الله المشتكى وعليه المعول فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدرك أمدنا ولا ترحض عنك عارها وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين فالحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة ولآخرنا بالشهادة ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود وحسبنا الله ونعم الوكيل. اللهم خذ لنا بحقنا وانتقم من ظالمنا وأحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا.
ودعا يزيد بالخاطب فأمره أن يصعد المنبر فيذم الحسين وأباه (ع). فصعد وبالغ في ذم أمير المؤمنين والحسين الشهيد (ع) والمدح لمعاوية ويزيد فصاح به علي بن الحسين (ع) ويلك أيها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار.
ثم قال علي بن الحسين (ع) يا يزيد ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات لله فيهن رضا ولهؤلاء الجلساء فيهن أجر وثواب. فأبى يزيد عليه ذلك فقال الناس يا أمير المؤمنين ائذن له فليصعد المنبر فلعلنا نسمع منه شيئا فقال إنه إن صعد لم ينـزل إلا بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان فقيل له يا أمير المؤمنين وما قدر ما يحسن هذا فقال إنه من أهل بيت قد زقوا العلم زقا. فلم يزالوا به حتى أذن له فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم خطب خطبة أبكى منها العيون وأوجل منها القلوب ثم قال
أيها الناس أُعطينا ستا وفُضِّلنا بسبع أُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين وفُضِّلنا بأن منا النبي المختار محمدا ومنا الصِدِّيق ومنا الطيار ومنا أسد الله وأسد رسوله ومنا سبطا هذه الأمة أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي أيها الناس أنا ابن مكة ومنى أنا ابن زمزم والصفا أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا أنا ابن خير من ائتزر وارتدى أنا ابن خير من انتـعل واحتفى أنا ابن خير من طاف وسعى أنا ابن خير من حج ولبى أنا ابن من حُـمِل على البراق في الهواء أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى أنا ابن من بلغ به جبرائيل سدرة المنتهى أنا ابن من دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى أنا ابن من صلى بملائكة السماء أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى أنا ابن محمد المصطفى أنا ابن علي المرتضى أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلا الله أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين وطعن برمحين وهاجر الهجرتين وبايع البيعتين وقاتل ببدر وحُنَـيْن ولم يكفر بالله طرفة عين أنا ابن صالح المؤمنين ووارث النبيين وقامع الملحدين ويعسوب المسلمين ونور المجاهدين وزين العابدين وتاج البكَّاءين وأصْبَرِ الصابرين وأفضل القائمين من آل ياسين رسول رب العالمين أنا ابن المؤيد بجبرائيل والمنصور بميكائيل أنا ابن من حامى عن حرم المسلمين وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين والمجاهد أعداءه الناصبين وأفخر من مشى من قريش أجمعين وأول من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين وأول السابقين وقاصم المعتدين ومبيد المشركين وسهم من مرامي الله على المنافقين ولسان حكمة العابدين وناصر دين الله وولي أمر الله وبستان حكمة الله وباب علم الله سمح سخي بهلول بهي زكي أبطحي رضي مقدام صابر همام صوام مهذب قوام قاطع الأصلاب ومفرق الأحزاب أربطهم عنانا وأثبتهم جنانا وأمضاهم عزيمة وأشدهم شكيمة أسد باسل يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنة وقربت الأعنة طحن الرحى ويذروهم فيها ذرو الريح الهشيم ليث الحجاز وكبش العراق مكي مدني خيفي عقبي بدري أُحُدِي شجري مهاجري، من العرب سيدها ومن الوغى ليثها، وارث المشعرين وأبو السبطين الحسن والحسين ذاك جدي علي بن أبي طالب أنا ابن بنت رسول الله أنا ابن فاطمة الزهراء أنا ابن سيدة النساء أنا ابن خديجة الكبرى أنا ابن المقتول ظلما بكربلاء أنا ابن المجزوز الرأس من القفا أنا ابن العطشان حتى قضى أنا ابن الطريح بلا رأس بكربلاء أنا ابن مسلوب العمامة والرداء أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء أنا ابن من ناحت عليه الجن في الأرض و الطير في الهواء أنا ابن من رأسه على السنان يهدى أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تسبى....
فلم يزل يقول أنا أنا حتى ضج الناس بالنحيب والبكاء وخشي يزيد أن تكون فتنة فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام فلما قال المؤذن الله أكبر الله أكبر قال علي لا شيء أكبر من الله فلما قال أشهد أن لا إله إلا الله قال علي بن الحسين شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي فلما قال المؤذن أشهد أن محمدا رسول الله التفت من فوق المنبر إلى يزيد فقال محمد هذا جدي أم جدك يا يزيد فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت وإن زعمت أنه جدي فلم قتلت عترته وفرغ المؤذن من الأذان والإقامة وتقدم يزيد فصلى صلاة الظهر ولم يحن وقتها بعد.
ثم إن يزيد أمر بنساء الحسين (ع) فحبسن مع علي بن الحسين (ع) في محبس لا يكنهم من حر و لا قر حتى تقشرت وجوههم.
وبعد أيام قال يزيد لعلي بن الحسين (ع) اذكر ثلاث حاجات أقضيهن لك فقال له الأولى أن تريني وجه سيدي ومولاي وأبي الحسين (ع) فأتزود منه والثانية أن ترد علينا ما أخذ منا والثالثة إن كنت عزمت على قتلي أن توجه مع هؤلاء النسوة من يردهن إلى حرم جدهن (ص) فقال أما وجه أبيك فلن تراه أبدا وأما قتلك فقد عفوت عنك وأما النساء فما يردهن غيرك إلى المدينة وأما ما أخذ منكم فأنا أعوضكم عنه أضعاف قيمته فقال (ع) أما مالك فلا نريده وهو موفر عليك وإنما طلبت ما أخذ منا لأن فيه مغزل فاطمة بنت محمد (ص) ومقنعتها وقلادتها وقميصها فأمر برد ذلك وزاد فيه من عنده مائتي دينار فأخذها زين العابدين (ع) وفرقها في الفقراء ثم أمر برد الأسارى وسبايا الحسين (ع) إلى أوطانهن بمدينة الرسول (ص).