" قصة آل عمران عليهم السلام "
بلغ عمران من العمر عتياً اصبح شيخاً طاعناً في السنّ لم يرزقه الله طفلاً .
و كانت " حنّة " امرأته عقيماً لا تلد ، و كانت تتمنى أن يرزقها الله ولداً .
و أوحى الله سبحانه الى عمران : اني واهب لك ولداً مباركاً !
فرح عمران و بشّر امرأته قائلاً :
ـ أن الله استجاب دعاءنا و سيرزقنا صبيّاً مباركاً .
و فرحت المرأة الصالحة عندما شعرت بالحمل في بطنها .
و ذات صباح انطلقت حنّة الى المعبد و نذرته لله ، قالت :
ـ ربّ اني نذرت لك ما في بطني محرّراً فتقبل مني انك انت السميع العليم .
النذر :
و كان زكريا النبي ( عليه السلام ) في المعبد فرح عندما سمع بذلك ، ان الله قادر على كل شيء يرزق من يشاء .
دخل المحراب و راح يصلّي لله ، ثم انطلق الى دكانه في السوق .
و مضت أيام و أسابيع و شهور ، توفي عمران قبل أن يرى وجه الطفل الذي رزقه الله ، و جاءت ساعة المخاض كانت حنّة تعتقد ان الله سيرزقها صبياً ذكراً مباركاً و لكنها فوجئت بان الوليد لم يكن سوى فتاة جميلة .
و الآن كيف ستفي بنذرها لله ، كيف يمكن للفتاة أن تخدم في المعبد ؟!
قالت و هي تنظر الى السماء :
ـ ربّ اني وضعتها انثى . . و ليس الذكر كالانثى .
الله سبحانه القى في روعها ان لهذه الفتاة شأن و انها ستلج المحراب و المعبد ، قالت حنّة بخشوع !
ـ و اني سميتها مريم ، و اني اعيذها بك و ذرّيتها من الشيطان الرجيم .
سمت المرأة الصالحة ابنتها " مريم " أي العابدة ، أو خادمة المعبد .
كبرت مريم اصبحت بنتاً و آن لها أن تذهب الى المعبد لتخدم فيه .
و حدثت المشكلة من الذي سيكفل مريم ؟ جميع الكهنة أرادوا كفالتها لأنها ابنة عمران الرجل الصالح و ابنة حنّة المرأة التقية .
اتفق الكهنة على اجراء القرعة أيهم يكفل مريم ، و خرجت القرعة على زكريا ( عليه السلام ) .
كان زكريا رجلاً تقياً ، و كان يحبّ مريم فقد توسم فيها الخير و البركة .
زكريا زوج خالتها ، اصبح كافلاً لها مشرفاً على تربيتها . .
البتول :
في غرفة صغيرة في أعلى البيت المقدّس عاشت مريم منقطعة عن العالم . .
لا أحد يستطيع الدخول اليها أو دخول غرفتها سوى زكريا .
كبرت مريم في عزلتها ، مثل قطرة الندى طاهرة ، مثل شمس وراء الغيوم ، مثل قمر منير .
نمت مريم مثل زهرة ندية . . مثل وردة بنفسج ، يملأ عطرها الفضاء دون أن يراها أحد .
كانت مريم تمضي وقتها في المحراب تصلّي لله بخشوع و في كل يوم كانت الحقائق تسطع في روحها ، و الملائكة تطوف حولها تبشرها بان الله قد اصطفاها و طهرها من الرجس ، انها لؤلؤة في صدفة ، لا يعلم سرّها إلاّ الله سبحانه .
رَطَبٌ في الشتاء !
في يوم شتائي قارس البرد ارتقى زكريا السلّم الطويل ، ليذهب الى غرفة مريم ، يحمل اليها طعاماً ، كسرة خبز و قليلاً من اللبن .
سمع زكريا صوتاً مثل خرير الجداول لم يكن سوى مريم تناجي ربّها الذي اجتباها فطهرها .
دخل زكريا الغرفة بهدوء ، فرأى شيئاً عجيباً . . رأى إناءً مليئاً بالرطب ، كانت نكهة الرطّب تملأ فضاء الغرفة .
تعجب زكريا و قال :
ـ من أين لك هذا ؟!
قالت مريم و وجهها الملائكي يشرق بخشوع :
ـ هو من عند الله ان الله يرزق بغير حساب .
امتلأت نفس زكريا بالايمان و قال في نفسه :
ـ فاكهة الصيف يرزقها الله المؤمن في قلب الشتاء !!
و تمرّ الايام و يأتي فصل الصيف ، و زكريا يتفقد مريم البتول فرآها تسجد لله في محرابها و رأى إناءً مليئاً بالبرتقال امتلأت نفسه احتراماً لهذه الفتاة التي بلغت منزلة جليلة عند الله .
الله سبحانه أكرم مريم ، يرزقها بغير حساب ، تجد رزقها في غرفتها ، لأنها انقطعت اليه ، حتى لو ماتت من الجوع فأنها لن تغادر غرفتها وفاءً لنذر امّها المرأة الصالحة .
هنالك دعا زكريا ربّه :
رأى زكريا كرامة مريم عند الله و كيف يرزقها الله فاكهة الصيف في الشتاء و فاكهة الشتاء في الصيف ، ان الله قادر على كل شيء يرزق من يشاء بغير حساب .
و وقف زكريا الرجل الصالح العجوز يصلّي لله بخشوع قال :
ـ ربّ هب لي من لدنك ذرّية طيبة .
فجأة غمر نور سماوي المحراب ، و سمع زكريا الملاك يناديه :
ـ ان الله يبشرك بيحيى . . لم يجعل له من قبل سميا .
و تحققت أمنية زكريا ، كان يتمنى ولداً مثل مريم في طهره و صدقه و ايمانه . و لكنه قال :
كيف يكون لي ولد وأمرأتي عقيم ، وقد أصبحت شيخاً طاعناً في السنّ .
قال الملاك :
ـ كذلك قال ربّ هو علي هيّن .
قال زكريا :
ـ و كيف اعرف ان الله قد رزقني يحيى ؟
قال الملاك :
ـ ان علامة ذلك أن تفقد قدرتك على الكلام ثلاث ليال .
كان المساء قد حلّ و غمر كل شيء بالظلام ، و شعر زكريا بان لسانه مثل الخشبة ، لا يستطيع القدرة على النطق أبداً ، و سجد زكريا لله الحنّان ، المنّان .
الله سبحنه رزق زكريا ولداً طاهراً سيكون له شأن ، و خرج زكريا من المعبد أراد أن يعظ الناس ، أن يقول لهم لا تنسوا الله . . اسجدوا لله . . اذكروا الله دائماً . .
لكن لسانه لم يعد مِلكاً له . . راح زكريا يشير لهم باتجاه السماء ، ان هناك يا بني اسرائيل من يراقبكم . . سبحوا الله يا قومي و اذكروه .
ثلاث ليالٍ تمرّ و زكريا ما يزال عاجزاً عن الكلام ، و في اليوم الرابع قال لزوجته الصالحة اليصابات :
ـ لقد بشرني الله بولد اسمه يحيى .
قالت المرأة الصالحة :
ـ يحيى ياله من اسم عجيب !! ثم كيف لي أن ألد و أنا عقيم !
قال زكريا :
ـ ان الله قادر على كل شيء . .
الله سبحانه بيده قوانين الخلق . . في قبضته السماء و الأرض و هو خلق أبانا آدم من تراب .
المعجزة :
اصبح اليهود في ذلك الزمان قساة لا يؤمنون إلاّ بما يشاهدون ، لجأ بعضهم الى السحر ، و أصبح بعضهم يشتغل في صياغة الذهب ، و لكنهم جميعاً كانوا يحبّون المال أكثر من كل شيء .
كانوا يبتعدون عن تعاليم موسى يوماً بعد آخر .
من أجل هذا أراد الله سبحانه أن يوقظهم من غفلتهم ، وهب الله زكريا ولداً ، حملت زوجته العقيم و انجبت صبياً ، وجهه يضيء بالايمان و المحبّة .
و انجبت حنّة بنتاً هي مريم .
الله سبحانه كان قد وعد عمران بميلاد صبي له شأن ، و لكنّه توفي و لم ير ابنته مريم .
الله سبحانه طهّر مريم ليجعل منها آية للناس ، و سيجعل منها آية أخرى .
البشارة :
كانت مريم في خلوتها تتعبد ، وجهها يتألق نوراً و كان قلبها الطاهر يسافر بين النجوم ، يطوف في السماوات .
مثل قطرة ندى في الصباح ، كانت الفتاة الطاهرة تتألق .
قلبها يضيء ، و روحها شفافة ، تكاد تحلّق بعيداً في عوالم مفعمة بالنور .
مريم منقطعة عن العالم ليس بينها و بين الدنيا سوى نافذة صغيرة تطلّ على الافق الازرق الذي يلامس التلال الخضراء .
فجأة امتلأت غرفتها بالنور ، و في قلب هالة النور رأت شاباً .
ذعرت مريم خافت قالت :
ـ إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً .
قال الشاب :
لا تخافي يا مريم " انما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً " .
قالت مريم و هي تطرق حياءً :
ـ كيف يكون لي طفل و لم اتزوّج بعد ؟!
كانت مريم معجزة و ها هي تصبح أمّا لمعجزة كبرى سوف تنجب و هي ما تزال عذراء !
قال الملاك :
ـ كذلك يا مريم قال ربّك : هو عليّ هيّن ، و لنجعله آية للناس و رحمة منّا ، و كان أمراً مقضياً .
و تقدم الملاك من مريم لينفخ في قميصها ، و شعرت مريم ان روحاً عظيمة نفّاذة تنفذ في اعماقها .
و غاب الملاك ، و أدركت مريم انّها مقبلة على أيام عصيبة ، انها تتحمّل مسؤولية كبرى .
انها تحمل في أحشائها روح الله و كلمته ، و لكنها كانت تشعر بالقلق من يصدّق حملها المبارك ، و كيف يصدّق الناس أن طفلاً يولد دون أب ؟!
كان الحمل المبارك ينمو في أحشاء مريم الطاهرة ، و ذات صباح مشرق ، انطلقت مريم الى التلال القريبة ، كانت حائرة خائفة قلقة ، و لكنّ ايمانها بالله يقوّي عزيمتها و إرادتها .
مريم متعبة جلست عند جذع نخلة ، و شعرت بالآم شديدة ، آلام الولادة . . هتفت مريم :
ـ يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسياً منسياً !
كانت مريم تفكر من يصدّق انها تنجب طفلاً دون أب !!
و سمعت مريم الجنين يخاطبها :
ـ لا تحزني يا أمي . . الله هيّأ لك جدول ماء فاشربي منه ، و هزّي جذع النخلة سوف تنثر عليك رطباً فكلي و اشربي و قرّي عينا .
شعرت مريم بالهدوء يترقرق في قلبها مثل مياه الجدول ، و لكنها قالت بقلق :
ـ والناس يا بني . . ماذا أقول للناس يا روح الله ؟
قولي لهم نذرت لله صوماً فلن اكلّم اليوم انساناً .
و ولد عيسى المعجزة . . ولد طفل بلا اب ليكون آية للناس على قدرة الله . . ليكون رحمة للناس . .
الطفل الطاهر يبتسم لأمه وضعته أمه في احضانها ، ثم حملته عائدة الى قومها !
و انحدرت مريم من التلال الى المعبد ، و شاهد الناس منظراً عجيباً ! ان مريم تحمل طفلاً ! مريم ابنة عمران تحمل طفلاً !! مريم بنت حنّة لم تتزوج بعد و لكنها تحمل طفلاً !
ـ ماذا ؟ !! كيف ؟ أين هي ؟!
ـ تلك مريم انها تتجه الى غرفتها في المعبد .
و انتشر الخبر المثير في كل مكان ، و اصبح حديثاً للجميع .
الجميع كانوا يتعجبون ، و الناس المؤمنون كانوا ساكتين ، أما البعض فكان يثرثر بكلمات سيئة . .
و سمع زكريا ما يثرثر به الناس ، و سمع الكهنة بعض الشائعات من أجل هذا انطلق زكريا و مع كهنة المعبد الى مريم . .
قال أني عبد الله !
كانت مريم تصلّي في المحراب ، و عيسى في مهده مثل كوكب مضيء . . مثل برعم يتفتح للربيع .
و دخل زكريا الغرفة و دخلها رجال المعبد :
قال احدهم و مخاطباً مريم بقسوة :
ـ لقد جئت شيئاً فريّا .
و قال آخر :
ـ يا أخت هارون ما كان أبوك امرء سوءٍ و ما كانت أمّك بغيّاً .
وقفت مريم تنظر الى قومها و قد تألق وجهها بنور سماوي لم تقل شيئاً أشارت الى الطفل .
تعجب الرجال قالوا :
ـ كيف نكلم من كان في المهد صبياً ؟!
كيف نكلم طفلاً ، و هل يستطيع طفل في المهد أن يتحدّث ؟!
و في هذه اللحظة و فيما كان الرجال يحدّقون في الطفل متسائلين ، حدثت المعجزة !
إن الطفل يتكلم يكشف عن حقيقة كبرى :
ـ اني عبد الله ! آتاني الكتاب و جعلني نبياً . . إنّ الله ربّي و ربكم فاعبدوه . .
لقد جعلني الله مباركاً . . و أوصاني بالصلاة و الزكاة ما دمت حيّاً . .
أوصاني ببرّ والدتي و لم يجعلني جبّاراً شقياً .
و السلام عليّ يوم ولدت و يوم أموت و يوم ابعث حيّاً .
و امام هذا المشهد المثير . . سجد زكريا لله مصدّقاً بعيسى بن مريم ، روح الله و كلمته القاها الى مريم !
بعض الرجال خشعوا و امتلأت قلوبهم بالايمان ، و بعض ظلّ ينظر بقسوة غير مصدّق بالمعجزة .
البيت الكريم :
وعد الله زكريا أن يرزقه ولداً ، و حدثت المعجزة ولد يحيى و كانت أمه " اليصابات " عقيماً و لكن الله الذي خلق عيسى دون أب ، قادر على أن يرزق المرأة العقيم طفلاً ففرح .
ولد يحيى و كان طفلاً طاهراً مؤمناً يحبّ الله ، و الله يحبّه كانت أُسرة زكريا أُسرة كريمة ، أب صالحٌ و أمٌ مؤمنة و طفل يبرّ والديه ، و يحبّ الخير للناس .
و في ذلك المجتمع ولد عيسى و كانت ولادته معجزة و كان آية للناس على قدرة الله .
و ولد يحيى بمعجزة كانت أمه عقيماً ، قرزقها الله ولداً صالحاً ليكون آية للناس و رحمة .
كانا آيتين و دليلين على قدرة الله و رحمته ، فماذا حصل لهما عند أصبحا شابيّن ؟
هذا ما سنعرفه في القصة القادمه . . الى اللقاء . .