تشغلنا في لبنان اليوم مشاكل كبيرة تعيق تطور مجتمعنا وتعرقل متابعتنا للتطورات الاقتصادية العالمية. لبنان هو اليوم على هامش التطور الاقتصادي العالمي يتفرج عليه من بعيد ولا يشارك به. لبنان غارق في مشاكل سياسية متشنجة ستترك أثارا سلبية على اقتصاده، خاصة إذا طالت، فالمشاكل تتراكم والحلول تنتظر، بل أصبح همنا الوطني هل يجتمع مجلس الوزراء أم لا وأين ولماذا. بالرغم من المطالبة المحقة بتحقيق سلام سياسي بين الجهات المتنازعة، إلا أن استمرار الأزمة يعمق مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية ويرفع من نسب البطالة والفقر كما يجعل تكلفة الإعمار أعلى. نتمنى أن لا يطول الوقت الاقتصادي الضائع وتعود المؤسسات الرسمية العامة إلى أعمالها الطبيعية للتعويض عما فاتها وفاتنا في الأشهر الماضية.
من الخطورة بمكان إدخال القطاعات الاقتصادية في النزاع السياسي الحالي، إذ يجب أن تبقى مستقلة لمصلحتها ومصلحة لبنان. لا يمكن للقطاعات الاقتصادية أن تكون فريقا في نزاع سياسي بالرغم من أهميته، إذ يشكل ذلك سابقة خطرة عليها وعلى فريقي الإنتاج. لا يمكن أن تبتعد القطاعات الاقتصادية عن أسباب وجودها وهي الإنتاج وتحقيق النمو وإيجاد فرص عمل كثيرة للشباب والشابات. يجب أن تبقى المؤسسات الاقتصادية الخاصة كمجموعة بعيدة عن النزاع السياسي الحاصل كما عن أي نزاع سياسي مستقبلي كي تحافظ على استقلاليتها ومناعتها وسلامتها وديمومتها. لا مانع طبعا من إصدار بيانات تحذر من المضي في اتجاهات معينة وتقدم النصائح، لكن دون المشاركة بفعالية كفريق في النزاعات السياسية المباشرة. يجب أن تبقى القطاعات الاقتصادية بعيدة عن السياسة الضيقة وتركز اهتماماتها على الأمور الاقتصادية والاجتماعية. فالأزمة السياسية مهما طالت تبقى عابرة، أما قطاعنا الخاص ومؤسساته فهي دائمة ومستمرة ومزدهرة بفضل تعاون عمالها مع أرباب العمل لمصلحة المؤسسات.
تبقى الانجازات الاقتصادية التي حققناها منذ بداية هذه السنة زهيدة جدا مقارنة بما يحصل مثلا في دول الخليج العربي والعالمين الأسيوي والغربي. أين هي الاستثمارات الخاصة الجديدة التي تخلق فرص عمل كافية للأجيال اللبنانية الصاعدة؟ في سنة 1983 قال ماريو سواريز Soares عند تسلمه رئاسة الحكومة البرتغالية أن "الحكومة ستكون متقشفة وحازمة حتى لو خسرت من شعبيتها وذلك لتحقيق النهوض الاقتصادي". نجحت البرتغال ونما اقتصادها بمعدل سنوي قارب 3% بفضل الجهود الكبيرة التي بذلت من قبل المؤسسات الرسمية كما بفضل الاتفاقيات المهمة التي وقعتها ضمن أوروبا وخارجها. وصلت البرتغال إلى المرتبة 26 في مؤشر التنمية الإنسانية بمعدل 89,7 على مئة بفضل السياسات الاجتماعية الصائبة. لبنان وقع اتفاقية الشراكة مع أوروبا لكنها لم تنفذ بعد كما يجب. لبنان هو عضو مراقب فقط في منظمة التجارة العالمية ولم ينضم إليها بعد. من هي الجهات الرسمية التي تقلق فعلا على تأمين فرص العمل للبنانيين وتجهد لتحقيقها؟ من هي الجهات الرسمية المستعدة للتضحية والتقشف وخسارة بعض الشعبية لمصلحة لبنان وإنقاذ اقتصاده؟ هل يعني النزاع السياسي اهمال المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تهم اللبنانيين كالضمان والكهرباء والصحة العامة والتعليم والفقر والبطالة وغيرها؟ لا يمكن وضع المسؤولية على الحكومة وحدها إذ لا يمكنها القيام بواجباتها الكاملة دون تعاون رئاسة الجمهورية ومجلس النواب. أين هي المحاسبة والمساءلة الحكومية العلنية التي وعدنا بها كل أسبوع؟ ما الذي يعيق وضعها على جدول أعمال مجلس النواب؟ اليد الواحدة لا تصفق ولا بد للمؤسسات الرسمية الأخرى من التعاون مع الحكومة تحقيقا للمصلحة الوطنية.
ما شهده العالم من تطورات وانجازات في العقود الماضية كان كبيرا ومهما، منها الانترنت والخليوي والثورات العلمية في العلوم التكنولوجية والطبيعية. من التطورات الكبرى سقوط الأنظمة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية وتحوله جذريا في الصين. من التطورات الأساسية صعود الهند والصين بحيث تصبحان قوتان اقتصاديتان عظمتان في القرن الحالي. من التطورات السلبية زيادة الإرهاب في كل مكان بدأ من أفغانستان إلى الولايات المتحدة وبريطانيا والعراق والمملكة العربية السعودية ولبنان ومعظم أنحاء المعمورة. كانت التطورات قوية وسريعة وعميقة ومؤلمة أحيانا، فوقعت ضحايا عديدة وبريئة. ما سيشهده العالم في السنوات العشرة القادمة من تحولات هو ربما أهم وأعمق وعلى الشكل التالي:
أولا: بالرغم من السياسات السكانية الداعية لتحديد الإنجاب، من المتوقع أن يزيد عدد سكان العالم حتى سنة 2016 بحوالي مليار نسمة أي يصل إلى حدود 7,2 مليار شخص. 95% من الزيادة ستحصل في مدن الدول النامية مما ينعكس سلبا على الفقر وتوزع الدخل والثروة وكافة المؤشرات الاجتماعية والإنسانية. ستصبح نيويورك مثلا المدينة الأميركية الوحيدة ضمن المدن العشرين الأكثر اكتظاظا بالسكان.
ثانيا: يقدر أن فقط 10% من نفط المنطقة سيصدر للدول الغربية في حدود سنة 2016، بينما يذهب ثلاثة أرباعه إلى الأسواق الأسيوية. يعكس هذا التغيير النفطي الكبير التطورات الحاصلة في الخريطة الاقتصادية الدولية والتي تشير أكثر فأكثر إلى دور آسيا المتصاعد. في الصين هنالك عدد كبير يدرس اللغة الانكليزية يفوق عدد الذين يتكلمون اللغة نفسها في الولايات المتحدة. هل تتحضر الدول الغربية كما يجب لمنافسة الثقل الأسيوي المتزايد والتي سيترك أثارا كبرى ليس فقط على العلاقات الاقتصادية الدولية وإنما أيضا على السياسة والثقافة واللغات وكافة العلوم والآداب والحريات. قال "كانت" Kant انه لا يمكن لأية الدولة أن تتجاهل الحريات الفردية دون أن تضر بالقواعد الأخلاقية العامة. يجب أن نتوقع منذ اليوم أن الأجيال المستقبلية في كل مكان ستحتاج الى تعلم اللغة الصينية وربما الهندية وتتعمق في دراسة الثقافتين الغنيتين للاستفادة من الأسواق المتوسعة شرقا.
ثالثا: بفضل التطورات التكنولوجية الحاصلة كما بفضل الاتفاقيات التجارية والمالية الدولية، سيزداد النمو الاقتصادي الدولي السنوي ليتعدى معدلات نمو الستينات والسبعينات. قال "كورديل هال" Hull الذي شغل منصب وزير الخارجية الأميركية ل 11 سنة (ما بين سنتي 1933 و1944) إن التجارة الدولية هي السياسة الأفضل لتجنب الحروب. حصل "هال" على جائزة نوبل للسلام في سنة 1945. تشجيع التجارة الدولية لا يؤثر فقط على الاقتصاد وإنما أيضا على السياسة والسلام. أين هي حصة العالم العربي من هذا النمو المتوقع وما هي التحضيرات والتغييرات التي تقوم بها دولنا للاستفادة من الخريطة الجغرافية الجديدة؟ ما هي الخطوات التي نقوم بها في لبنان للاستفادة من الدعم الاقتصادي والمالي المعروض علينا وما هي الاستعدادات التي تجعلنا نواجه بنجاح التحول الاقتصادي العالمي.
حتما هنالك انقسامات كبرى بين اللبنانيين على العديد من الأمور السياسية كما هو الحال في كل الدول بما فيها الولايات المتحدة وفرنسا. إلا أننا نتفق على الأكثرية الساحقة من القضايا الاقتصادية والاجتماعية وعلى الحلول. نجتمع كلبنانيين على مطالبة كل المؤسسات الرسمية بالعمل على تحقيق نمو اقتصادي مقبول وعلى رفع مستوى المعيشة. في كل الدول هنالك خلافات سياسية حادة إلا أن المصالح الاقتصادية والاجتماعية تبقى مؤمنة لمصلحة المواطن والفقراء خاصة. اللبنانيون مسيسون إلى حد كبير، وهذا مقبول شرط أن لا يقبلوا بإهمال مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية. فهل تتعظ مؤسساتنا الدستورية من تجربة ماريو سواريز وتحقق ما يطمح إليه اللبنانيون أي نمو نوعي وأخلاقي؟