ولاؤه وعقيدته
كان الفرزدق موالياً لأهل البيت عليهم السّلام، مناصراً لعلي وأبنائه عليهم السّلام، مجاهراً بحبّه لهم، وإذا مدحهم تدفق شعره عاطفة وحماسة، فلا نرى فيه أثراً لتكلّف المادح المتكسّب، وخير دليل على صدق موالاته آل البيت عليهم السّلام، قصيدته في زين العابدين علي بن الحسين عليه السّلام، وهي من أبلغ الشعر وأخلصه عاطفة. يقول ابن خَلِّكان في أعيانه: « وتُنسَب إلى الفرزدق مكرمة يرجى له بها الجنّة ». وهي أنه لما حج هشام بن عبدالملك، فطاف وجَهِد أن يصل إلى الحجر ليستلمه، فلم يقدر عليه من كثرة الزحام، فنُصِب له منبر وجلس عليه، ينظر إلى الناس ومعه جماعة من أعيان أهل الشام. وفيما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السّلام، وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً، فطاف بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر، تنحّى له الناس، وانشقت له الصفوف، ومكّنته من استلام الحجر، فقال رجل من أهل الشام: منْ هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة ؟! فقال هشام: لا أعرفه ( مخافة أن يرغب فيه أهل الشام ). وكان الفرزدق الشاعر حاضراً، فقال: أنا أعرفُه! فقال الشاميّ: مَن هذا يا أبا فراس ؟ فقال الفرزدق وأطلق قصيدته الشهيرة العصماء
قصيدة الفرزدق
هـذا الـذي تـعرف البطحاءُ وطأتَه والـبيتُ يَـعرِفه والـحلُّ والـحرمُ
هـذا ابـنُ خـيرِ عـبادِ الله كـلِّهمُ هـذا الـتقيُّ الـنقيُّ الـطاهرُ العَلَمُ
هـذا آبـنُ فـاطمةٍ إن كنتَ جاهِلَهُ بـجَـدِّه أنـبـياءُ الله قـد خُـتِموا
هــذا عـلـيٌّ رسـول الله والـدُه أمـسَتْ بـنور هـداه تـهتدي الأممُ
إذا رأتــه قـريـشٌ قـال قـائلها إلـى مـكارمِ هـذا يـنتهي الـكرمُ
يـكـاد يُـمـسكه عـرفانَ راحـته ركـنُ الـحطيم إذا ما جاء يستلمُ
الله شــرّفـه قِـدْمـاً وعـظّـمه جـرى بـذاك لـه فـي لوحِه القلمُ
يُـنمى إلـى ذُروة العزّ التي قصُرَتْ عـن نـيلها عـربُ الإسلامِ والعجمُ
مـشتقّةٌ مـن رسول الله نبعتُه طـابت مغارسه والخيم والشيمُ
يـنشقّ ثـوبُ الدجى عن نور غُرّته كـالشمس ينجاب عن إشراقها الظُّلمُ
يُـغضي حـياءً ويُغضى من مهابته فـمـا يُـكـلّمُ إلاّ حـيـن يـبتسمُ
مـا قـال لا قـطُّ إلاّ فـي تـشهده لـولا الـتشهد كـانت لاؤُه نَعمُ
عـمّ الـبريةَ بـالإحسان فـانقشعت عـنها الغياهبُ والإملاقُ والألمُ
كـلـتا يـديه غـياثٌ عـمّ نـفعُهُما يُـستوكَفانِ ولا يَـعْروهما عَدَمُ
سـهل الـخليقة لا تُـخشى بـوادره يَـزينه اثـنانِ: حُسنُ الخُلْقِ والكرمُ
لا يُـخلف الـوعدَ مـيمونٌ نـقيبتُهُ رحب الفِناء، أريب حين يعتزمُ
حـمّـال أثـقالِ أقـوامٍ إذا فُـدِحوا حُـلْوُ الـشمائل تـحلو عـنده نِـعَمُ
هـم الـغيوث إذا مـا أزمـة أزمَتْ والأُسـدُ أسـدُ الشَّرى والبأس مُحتدِمُ
لا يُـنقص الـعسرُ بـسطاً من أكفّهمُ سـيانَ ذلـك إن أثْـرَوا وإن عَدِموا
أبـى لـهم أن يـحل الـذمُّ ساحتَهم خـيم كـريم وأيـدٍ بـالندى هـضمُ
مِـنْ مـعشرٍ حـبُّهم دِيـنٌ وبغضُهمُ كـفرٌ، وقـربُهمُ مـنجى ومُـعتصَمُ
مُـقـدَّم بـعـدَ ذِكْـر الله ذِكـرُهمُ فـي كـل بـدء ومـختومٌ بـه الكَلِمُ
إن عُـدّ أهـلُ الـتقى كـانوا أئمتَهم أو قيل مَنْ خيرُ أهل الأرض قيل: هُمُ
لا يـسـتطيع جـوادٌ بـعد غـايتهم ولا يُـدانـيهمُ قــوم وإن كـرموا
مَـنْ يـعرفِ الله يـعرفْ أوّلـيةَ ذا فـالدينُ مِـن بـيت هـذا ناله الأممُ
ولـيس قـولُك مَـنْ هذا ؟ بضائره الـعُرْبُ تـعرف مَنْ أنكرتَ والعجمُ
فلما سمع هشام هذه القصيدة، غضب وحبس الفرزدق، فأنفذ إليه الإمام علي بن الحسين عليه السّلام عشرين ألف درهم، فردّها وقال: مدحتُكم لله تعالى لا للعطاء، فقال الإمام عليه السّلام: إنّا أهل البيت، إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده، فقَبِلها . وعندما حبس هشام الشاعرَ بين المدينة ومكة، قال:
أتحبسُني بين المدينـة والتـي إليها قلوب الناس يهوي مُنيبُها
تُقلّب رأساً لم يكن رأسَ سيـدٍ وعينٌ له حولاءُ بادٍ عيوبُهـا!
ولكن هشاماً أطلقه خوفاً من لسانه