في التاسع والعشرين من تموز، طلب احمد شلهوب من ابنته سناء أن تعد له إبريق شاي، <كان يجلس بالقرب من أخي الذي كان ينظر إليّ وكأنه يراني للمرة الأولى>. تقول ابنة الأعوام العشرة. قال لها أخوها، وهو في الثامنة، <لفّي لي لقمة يا سنّوءة>، كما كان يدلعها. <كانت امي عم تقرا قرآن، صورتهم مش عم تروح من راسي>، تقول وتجهش بالبكاء: <خلص ما بقى في حدا منهم، ما بقى إلي حدا>.
ترتفع نبرة صراخ سناء فيتجمع من حولها نازحون وناجون من مجازر مختلفة لجأوا مثلها إلى استراحة صور.
تهدأ قليلا، تكمل قصتها <ما سهرت معهم، نمت بكّير>، في تلك الأمسية المشؤومة رفضت سناء إصرار إبنة عمها على السهر <كنت حاسة حالي تعبانة>. نامت سناء وسهر الباقون مع بعضهم البعض حتى منتصف الليل <يا ريتني بقيت كنت شفتهم اكثر، كنت ودعتهم>.
نامت سناء ولم تستيقظ إلا على صوت جارتهم تنادي على رضيعها عباس (تسعة اشهر): <وينك يا عباس، وينك يا ماما، وما حدا كان يرد عليها>.
الظلمة في كل مكان، ولا صوت إلا أنين الجرحى وصراخ من بقي على قيد الحياة. نادت ابنة السنوات العشر على أبيها، على أمها <من يزيح الركام عني الذي يغطي جسدي؟> لم يجبها أحد.
شقيقاها أيضا لم يجيبا. حسنا. ولكن ما بها هلا، أختها الكبرى، لا تسرع لنجدتها وألإطمئنان عليها كعادتها؟ تلمح سناء أختها الثانية، زينب تبحث عمن يساعدها. حاولت البحث عن صوت الصغيرتين ابنتي هلا وهما هالة (ثلاث سنوات ونصف) ورقية (سنة ونصف)... ولكن لم تلق الا صوت القصف وصراخ المصابين.
وحده ابن عمها وصل إليها، رفعها من بين الأنقاض و<راح> بها إلى مكان أكثر أمناً.
دخلت سناء إلى المكان الملاصق للمبنى الذي قتل فيه شهداء مجزرة قانا الثانية.
وجدت الكثير من الناس <نايمين>: <انتو نايمين أو ميتين؟> سألت، لكنها لم تلق جوابا.
تقول سناء أن أكثر ما يحزنها هو أن <شاب العيلة>، استشهد على غير ما كان يتمنى <كان يقول دوما إنه ينوي الالتحاق بالمقاومة>، إلا أن إسرائيل قتلته وهو أعزل <يا ريته راح على الجبهة، هيك كان عمل شي بيحبه>.
من عائلة احمد شلهوب بقيت سناء وحيدة في ملجأ استراحة صور، استشهد والداها وشقيقاها (18 سنة) و(8 سنوات) فيما ترقد أختاها في المستشفى. هلا، والدة الصغيرتين، لا تعرف حتى ألآن أن رقية الرضيعة قد لحقت ببقية العائلة أيضا.
بين <نوبة بكاء وأخرى تلملم سناء نفسها، ترفع رأسها كمن ينفض عنه الانكسار لتقول <دم أهلي رح يحرر أرضنا، عشان هيك مش رح إزعل>، تقول لها أن حزنها على أهلها، الذي تداريه، لا يعني أنها ليست مع تحرير الأرض ومع المقاومة، فتترك لنفسها بعض العنان، وتعود لتروي ما حصل وكأنها تتحدث مع نفسها.
لا تنسى سناء زوجة عمها التي كانت تقرأ القرآن كل الوقت، <ختمت القرآن ثلاث مرات>. قالوا لها أنهم وجدوها جثة هامدة ولكن يداها بقيت تمسك بكتاب الله.
إبنة عمها استشهدت هي ألأخرى :<ما بقي لي حدا>،تعاود سناء لتلم الناس من حولها.
من الملجأ حيث وجدت نفسها إثر المجزرة لم تخرج سناء بعد :<ما شفت حدا منهم، ما عرفت كيف ماتوا، وعدوني ياخدوني وما أخدوني... بدي إمي... بدي بيي، بدي إخواتي>، وتسبق صراخها يداها وهي تردّهما على وجهها.
هي في الملجأ مع من تبقى من عمومتها: احد هؤلاء نجا وحيداً فيما استشهدت زوجته واولاده الخمسة: <وفي واحد منهم ما بقي له إلا بنت وفرح فيها كتير>.
إلى ماذا تحتاجين يا سناء؟ ماذا تطلبين؟: <ما بقى بدي فوت علبيت من غير اهلي، ما عاد إلنا حدا، ما عاد فينا نعيش بلاهم>، تجيب قبل ان تختنق بصراخها.