ذكرى تغييب الامام موسى الصدر
ما اشد شوقنا اليك...
كما تهرول الشمس في حدقتي الغضاء.. وتجري الينابيع في الاودية والبساتين مصافحة كل صخرة او حجر، تمضي الايام بسكون ونحن نبني احلامنا قصوراً تزخرفها الامال بالحنين.
الى الامام الصدر لعلنا نعفر طموحنا بعمته السوداء.. وننهل من قلبه الدافئ ما يلهمنا الصبر، والحكمة، والايمان بالكلمة الصادقة والقضية المحقة.
كلما استليت قلمي او ارخيت للساني زمام الحديث عن الامام، تربع الفجر في نفسي، واستلقت امواج الحيرة على ضفاف فكري، وهل تفلح الكلمات في الارتقاء الى ذروة قامته الغراء؟
ان الحديث عن الامام، رحلة في غابة مليئة بالضلال، يحتار المرء فيها اين يلقي نفسه، واين يستمتع بالغيض، واذا اردنا دليل فخير انموذج صدى افكاره وتعاليمه وخطه في ذاكرة لبنان، ويعرف العظيم من اثره، وفعله، وسلوكه، وما نحته في امته وشعبه.
عرفت الامام الصدر حلماً مثالياً لابناء لبنان وفلسطين، ولابناء العرب والمسلمين، لم تطوعه الايام، ولم تمنعه التحديات، وانما اذاب نفسه شمعة لخلاص المجتمع المحروم، وانقاذه من براثين الحكام الجلادين، لقد طوع رقبة الزمن، وتلقف تعاليم الرسالة الاسلامية، لخدمة الامة والانسانية، بما يتناسب مع معطيات العصر وآفاق الواقع كان لبنان قلبا ينبض في يده، وفكرة تسبح في عقله، عندما قاد كل طامع قطيعة مستفيداً، محتلا او حاقدا، يظن الوطن شاة ينبغي الاستفادة من لحمها او ضرعها. كان ابناء الجنوب قلادة في عنقه، وحلما او املا ليس له شاطئ، عندما كادت الفتن والمخططات الواهية ان توقع بهم في افخاخ الاستسلام والضعة والياس، دون تحصيل حقوقهم في حدها الادنى.. فاي مستقبل للبنان وشعبه كان اروع مما يخطط له الامام الصدر؟
واي سلام كان اعظم مما زرع الصدر جذوره في الوطن المزدهي بارزته؟
انبلج نور الامام الصدر في لبنان متدفقاً على ربوعه الخضراء، وتلاله الملونة، بدموع الغمام وبسمات الاصيل، فلم يكن عالماً يحتضن الصمت في الزوايا، او يشرف على الناس من برجه العاجي، او يغرق في اودية الماضي المحدود، وانما سال في المجتمع ليعيش مع الفقير في كوخه، والمستضعف في سجنه، والغني في قصره، ودأبه ان يصلح ويغر نحو غد ملئ بالتضحية والعدالة والعزة، ولعل فكره، وسلوكه، ومنطقه ما جعل الشباب يتهافتون اليه منصاعين في حركته، متعاضدين معه، ملتزمين بخطه، ونهجه الرساليين.. بيد انه وجد في نفوسهم كل الثقة، ما جعله يلتزم معهم ويوجههم، فكرياً وجهادياً، وسخر حياته ليكون قنديلاً ينهل منه اللبنانيون في مسيرتهم اللبنانية، ومواجهتهم للتحديات الخارجية والداخلية.
واذا كان الامام الصدر عالم دين، نذر نفسه لخدمة الاسلام فان ذلك لم يمنعه من الانفتاح على الاديان والمذاهب الاخرى فقد نظر اليه هؤلاء على انه المخلص الاستثنائي الذي تخطى حدود جسده ليحلق في رحاب ثقافتهم واتجاهاتهم بكل عبقرية وسعة صدر.
ادرك مشكلة لبنان وعمل على حلها بمنطق الحوار وثقافة الاعتراف بالآخر، لكنه لم يشخص هذه المشكلة بنظامه الذي يختصر الى العدالة والمساواة والتصحيح فحسب، وانما حملته نظرته الثاقبة الى فهم الاستراتيجيات الخفية والمؤامرات الاستعمارية التي تحاك وراء الكلمات المعسولة والمزاعم المزركشة، لذا اطلق تصريحاته المشهورة وكلماته المثقلة بالهم الوطني ضد اسرائيل وسياستها الالغائية الغوغائية.. فقد وجد ان الداء يكمن في كلية الشرق الاوسط، وان الدواء ليس ناجحاً ما لم يتخط حدود لبنان.
وكيف لا تقدر هذه الرؤية بعد ان وجدناه جناحاً يحلق بين دولة واخرى؟ وهل تغيب عن الذاكرة جهوده التي قدمها بغية نجاح الثورة الايرانية وانتصارها على النظام الملكي الغاشم؟ ام هل ننسى ما بذله ذاك النظام لمحاربة الصدر، وكان ابسطها سحب جنسيته؟
ام هل تغيب عن ذاكرة الجهاد دعوته الى مساندة الثورة الفلسطينية حتى لو اقتضى الامر ان يذوب فيها بجبته وعمته؟
وفاء للامام الصدر لابد من حفظ وصاياه، والتمسك باصالة نهجه، وسعة فكره، وامتدادية رؤاه.. انطلاقاً من الحفاظ على وحدة لبنان وسلامة ارضه من الاحتلال والتقسيم الى التمسك بالسلم الاهلي والعيش المشترك والغاء الطائفية فالى رفض التوطين، والتدخلات الاجنبية، بما يحملان من ويلات تتظافر تبعاتها على شفافية الوطن وروحه الرحبة.
ولا ينبغي ان نشيح بأنظارنا عن هموم الامة الاسلامية اينما رسخت او تجلت.. من ضرورة الحفاظ على الدولة الاسلامية الغراء في ايران.. وارفادها ولاء وفكرا واعتزازاً.
الى ضرورة الحفاظ على الثورة - الانتفاضة الفلسطينية ضد الشر المطلق، ومساعدتها لاكمال المسيرة وتحرير الارض، مادياً ومعنوياً.. ثم الى ضرورة التمسك بوحدة العراق واستقلاله الذاتي، ونبذ الخلافات والصراعات بين ابنائه، لان الاختلاف في الرأي لا يفسد في الود قضية، فان لم يتحد العراق بجميع ابنائه سوف ينقلب الى لقمة سائغة لكل مستعمر يلتهم قوته، ويصادر ثرواته، ويظلم شعبه؟ فالى ادامة العلاقة الوثيقة بين سوريا العروبة ولبنان، والحفاظ على وحدة المسار والمسيرة والمصير.
ليس الامام زوبعة سرعان ما يخف تدفقها، او موجة ما ان ترتطم بالصخور حتى تفنى، لان ما غرسه في النفوس، وشيده في العقول، كان شديداً ارمدته العقيدة العظيمة والايمان المخلص فعلى الرغم من اختطافه، وعلى الرغم من المؤامرة المشبعة بالحقد واللؤم بقي صوته في كل ذاكرة يستنهض المجتمع ويحرك الضمائر؟
وما اشد حاجتنا اليه، يستل التنبؤة السياسية، ويزار فينا بتعاليمه ورؤاه، وكم يجتاحنا الحزن عندما نشعر باليتم تجاهه، فيما الاحداث تجري وفق ما كان قد المح اليه وحذر من عواقبه؟
امامنا ايها القائد المغيب.. تعزف الايام على جروحنا آلام الذكريات الملونة بالعزاء والولاء سيدي.. لقد امتدت اعناق الطامعين والمستعمرين الى لبنان، تريد ان تقضم منه ما تبقى من صموده وتحدياته فما اشد شوقنا اليك بل ما اشد حاجتنا الى حكمتك؟ دعوت الى مقاومة اسرائيل فكان الانتصار موسم الحصاد، ودعوت الى المواجهة بغية تحصيل الحقوق المهدورة، فكان الاستنقاذ لها من براثين المحتكرين.. بيد انك دعوت الى الانصهار الوطني ونبذ الخلاف والغاء الطائفية السياسة، فلم تلق الاستجابة، فها هو لبنان مسرح للصراعات، وميدان للتعصب والطائفية تنهشه الذئاب، وتحصد ثروته جماعات لاحظ لها من الفكر والوطنية، ولا موقع لها من العدالة والمساواة.
ايها القائد المغيب عشقت روحك اجنحة تجوب فضاء الايمان، واحتضنت نهجك مدرسة تنهل منها الحياة عبقرية الاخلاص والفداء.. فلئن اخفت جسدك مؤامرات الحاقدين فان صداك ماثل في اعماقنا لا تمحوه المصاعب.. ولا تحطمه الايام، ولا تنحر ابعاده التحديات.